انسحبت الدعاية الحوثية، ذات المنزع النازوي المدمر، من القول إن التحالف العربي يمثل عدواناً إلى اعتبار الحكومة اليمنية هي العدوان. ومنذ أشهر لم يعد الحوثيون يتحدثون عن توغلهم في أراضي السعودية بل في أراضي العدوان الداخلي. وبدلاً عن إطلاق الصواريخ الباليستية إلى "أرض العدوان" اتجه الحوثيون إلى استخدامها داخلياً. ومثل تنظيم داعش طور الحوثيون فكرة "العدو القريب"، ومنحوها العناية القصوى بحسبانها مدخلاً إلى استعادة السيادة، ودحر العدو البعيد.
إذا كان ممكناً أن نلخص المأساة اليمنية الراهنة في كلمات قليلة، فكالتالي: عشرون مليون جائعاً، ٢٥٠ ألف لغم مزروع داخل تجمعات حضرية، وفقاً لبيانات الحكومة، وجيش يؤيد الانقلاب يتشكل من قرابة ٤٠٠ ألف مقاتل، بحسب كلمات صالح في واحد من خطاباته الأخيرة، وخارطة مقلوبة: يسيطر الحوثيون على ٣٠٪ بـ٧٠٪ من السكان، بينما تعمل الحكومة في ٧٠٪ من الأرض تحوي ٣٠٪ من السكان.
داخل مشروع "حالة الطوارئ" التي يزمع الحوثيون تفعيلها سيُنظر إلى كل من يقول الحقيقة، أو يقترب منها، بوصفه مسانداً للعدوان. مؤخراً أصدروا حكماً بإعدام الصحفي يحيى الجبيحي، ربما كاختبار جهد لموقف المجتمع الدولي. أو، ببساطة، للقول إنهم ماضون في السيطرة على الوضع مهما كلفهم الأمر، وفي سبيل ذلك فهم جاهزون لخوض أصعب المعارك الأخلاقية.
النسخة الأولية لمشروع حالة الطوارئ، وقد دشنت بحكم إعدام ضد صحفي، تمنح ما يسمى ب"مجلس الدفاع" الحق في شن كل العمليات الأمنية والعسكرية داخلياً. فالمشروع ينص على مراقبة كل وسائل التواصل والاتصال، والاستيلاء على المؤسسات والعقارات التي يرى "المجلس" أنها تخدمه، وعزل مناطق بعينها عن باقي العالم عندما يستدعي الأمر. كما يقترح المشروع تحديد حركة واتصالات الأشخاص عند الحاجة، أي الإقامة الجبرية. وفوق ذلك: المحاكمات الطارئة.
داخل مشروع "حالة الطوارئ" التي يزمع الحوثيون تفعيلها سيُنظر إلى كل من يقول الحقيقة، أو يقترب منها، بوصفه مسانداً للعدوان
الحوثيون ماضون في الحرب، لا شيء غير ذلك. تغيرت قواعد اللعب فغير الحوثيون من قواعد الاشتباك، وجعلوها حرباً داخلية بالمعنى الشامل، وعدواناً. ليشن "العدوان" عمليات عسكرية على اليمن، فذلك متروك للمجتمع الدولي الذي يرى جزء كبير منه في كل أفعال السعودية، من الحرب إلى بناء المساجد، خطراً. بينما ينصرف الحوثيون إلى إخضاع المجتمع الداخلي بالقوة الوحشية، وبالصواريخ الباليستية، والألغام.
يملك الحوثيون خزاناً عسكرياً إجبارياً. فشبكة القبائل المؤيدة لها، أو الخاضعة لإرادتها، تعمل حسب الطلب، وتوفر مقاتلين لا يعودون ولا ينضبون. يتحرك الحوثيون بكل السلطة وبلا مسؤولية، فعلى الحكومة والتحالف العربي توفير الإعانات الغذائية والدوائية، وكذلك دفع المعاشات الشهرية. لقد تخلى الحوثيون عن المطالبة بأي شيء سوى "إيقاف العدوان". حتى إنهم لا يطلبون دواءً ولا أغذية، فقد تركوا للمنظمات المحلية والدولية تلك المهمة.
الحقيقة إن حالة الطوارئ هي عملية قائمة فعلياً منذ فجر الواحد والعشرين من سبتمبر، ٢٠١٤. خلال فترة قصيرة كان الحوثيون قد اعتقلوا حوالي ١٥ ألف معارضاً، وفقاً لمعلومات الحكومة اليمنية، ومات المئات في سجونهم. كما قوضوا كل التنوع القائم، حتى إنهم دمروا ٧٥٠ مسجداً، وفقاً لبيانات منظمة "برنامج التواصل مع علماء اليمن". استثنى الحوثيون من قبضتهم البربرية سلسلة من المنظمات المحلية التي تعنى برصد "جرائم العدوان"، وفقاً للدعاية الحوثية.
عندما سيطر الحوثيون على صنعاء انضمت السلالة الهاشمية، بصورة شاملة، إلى الميليشيات الطائفية، وتصدرتها. حصل الحوثيون على طبقة رفيعة ذات خبرة سياسية، تجيد القراءة وتنشط في السوق ولديها علاقات مع المجتمع الدولي، وكانت هي العمود الفقري للمنظماتية المحلية منذ وقت بعيد. ركب الهاشميون النمر الحوثي الإمامي، وكانوا خلال الستين عاماً الماضية هم مروضي الخيول الجمهورية. شوهدت منظمات معروفة، مثل منتدى الشقائق لحقوق الإنسان ومركز الرصد الديموقراطي، وهي تذوب في موكب الدعاية الحوثية وتقتص، على نحو بالغ العمق، من فكرة الجمهورية.
كما أتاحت الحوثية الفرصة الكاملة لمنظمات صغيرة لتتصدر المشهد، وبرزت منظمة مواطنة لتتمكن من رواية قصة الحرب اليمنية على طريقتها. بالنسبة لتلك المايكروـ منظمة، مواطنة، فالحوثيون قاموا باعتقال مواطن يمني يعتنق البهائية، لكنهم أفرجوا عنه فاعتقلته السلطات الشرعية في عدن. الحوثيون والحكومة الشرعية، بالنسبة لمواطنة، يقومون بالفعل نفسه، ويتطابقون. هكذا اختزلت الحرب الراهنة التي شنتها العصابات الطائفية على الدولة، وصارت مسألة فنية بحتة تتعلق بالنوع لا الدرجة. فـ١٥ ألف معتقل هي خطيئة مماثلة لاعتقال واحد.
أحاط الحوثيون أنفسهم بتلك المنظمات النشطة، وتلك شكلت سياجاً حول حركة الحوثي وبربريته. فالجماعة التي زرعت الألغام في كل كيلو متر مربع في اليمن لا تحضر إلا بصورة فنية في تقارير المنظمات النشطة في صنعاء. استحقت تلك المنظمات، عملياً، استثناء تاريخياً من حالة الطوارئ وكشوفات الطابور الخامس، ومساحة أكبر في الحركة.
تنحصر التعليقات الفنية التي تقدمها المنظمات، المستقلة نظرياً الحوثية دي فاكتو، حول فكرة جوهرية: على الحوثيين أن يتجنبوا ارتكاب الأخطاء الفجة لكي يصبحوا مقاتلين شرفاء.
أحاط الحوثيون أنفسهم بمنظمات نشطة شكلت سياجاً حول حركة الحوثي وبربريته فالجماعة التي زرعت الألغام في كل كيلو متر مربع في اليمن لا تحضر إلا بصورة فنية في تقارير المنظمات النشطة في صنعاء
عندما تطرح الأسئلة العملية على تلك المنظمات حول السبيل لإنهاء المأساة اليمنية ترد المنظمات بطريقة موحدة: إيقاف ضربات التحالف. لا يجرؤ العراقيون على القول إن إيقاف ضربات التحالف الدولي ضد داعش سيكون مقدمة لإنعاش الدولة المركزية وإعادة الاستقرار. ففكرة الحرب، في الحالتين، واحدة: ميليشيات دينية تسلك كل السبل القتالية للحلول محل الدولة، واستخدامها في تنفيذ مشروعها الديني والسياسي.
ثمة معادلة ميدانية تقول إن القوتين، الحوثية والداعشية، تتمدان على الأرض بتسارع عالٍ لمجرد أن يتوقف التحالف الدولي عن استهدافهما، وأنهما لا تملكان أي مشروع آخر سوى تنحية الدولة كما نعرفها بصورة كاملة، والجلوس مكانها.
التقارير التي تقدمها المنظمات المرعية حوثياً تزعم إنها تقدم رصداً حقوقياً، لكنها تصل دائماً إلى استنتاجات سياسية مبدئية. وهي تحول الحرب إلى سلسلة من الأخطاء الفنية التي ترتكبها الميليشيات الحوثية، مع تركيز الضوء على "جرائم التحالف".
من جهة أخرى يحتج ناشطون سياسيون، ومقاومون، على الأخطاء العسكرية للتحالف، آملين أن يقدم حليفهم حرباً أكثر أخلاقية. لكن هؤلاء الناشطون هم ناشطون سياسيون، لا يتحدثون عن حياد مهني بل أخلاقي. وبوضوح فهم لا يطالبون بإيقاف الحرب بل بالسيطرة عليها، ودفعها في اتجاه استعادة الدولة.
لقد فاجأت تلك الحرب عصابات صالح، ميليشيات الحوثيين، والسلاليات الطائفية التي ركبت ظهر النمر. كذلك فاجأت نُخب الغرب الداخلي، إذا استعرنا من ياسين الحاج صالح. كانت قد تواطأت مع القوى البربرية التي أسقطت الدولة وشرعت تهندس المجتمع طائفياً، على نحو يدفع إلى تقسيم المجتمع إلى غرب داخلي مهيمن، وشرق داخلي خاضع.