وتوصف حرب اليمن في الغالب بأنها نزاع منسي على الرغم من كونها في صلب اهتمامات القوى الدولية الكبرى والإقليمية.
وعلى الرغم من تزايد التغطية الإعلامية واهتمام الدبلوماسيين بالنزاع، بقيت وضعية تعز مهملة. فهي ثالث مدن البلاد، يقطعها خط مواجهة بين الحوثيين من جهة ومعارضيهم من جهة أخرى منهم مجموعات مختلفة وفصائل موالية للرئيس الهادي.
تستفيد هذه الفصائل من الدعم العسكري العربي الذي تقوده دولتان نشطتان بشكل خاص على الساحة اليمنية، العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
وقد كانت المدينة، حتى قبل إنشاء هذا التحالف في أوائل 2015، ضحية لتوغل حوثي لقمع متظاهرين سلميين رفضوا استيلاء الحوثيين على السلطة بصنعاء وانتشارهم نحو الجنوب. وهكذا تمركزت قوى التمرد الحوثي لمدة طويلة في قلب المدينة.
وبعد أربع سنوات من القتال العنيف تعد تعز دون شك المدينة التي تعرضت لأكبر دمار. وتشهد على ذلك بعض أشرطة الفيديو التي تم تصويرها بطائرات بدون طيار والتي تذكر بأسوأ الأمثلة السورية.
تحمل المباني آثار الرصاص وقذائف الهاون كاشفة عن مشهد وصفه بعض الصحفيين الأجانب الذين زاروا المدينة بالقاحل القاحط. ويعد المدنيون، الذين يعارضون بشكل واسع المتمردين الحوثيين، أول ضحايا الإقتتال ، خاصة برصاص القناصة وأيضا بسبب الألغام المضادة للأشخاص لا تقدم أية منظمة معطيات مؤكدة عن ضحايا الحرب.
حاولت جمعية يمنية أنشئت مؤخرا تقديم حصيلة أدق عن الضحايا المدنيين. ويظهر من هذه الحصيلة أن حصة تعز ضخمة. فمن مجموع 11267 مدنيا قتل في اليمن منذ بداية الحرب، 3796 مدنيا قتلوا بمحافظة تعز، من بينهم 349 ضحايا الألغام و811 ضحايا رمي القناصة. ويقدر عدد الجرحى ب 15755 شخص.
في ديسمبر 2016، بعد أن تمكن السكان من إنهاء جزئي للحصار الذي فرضه الحوثيون القادمون من الهضاب العليا بالشمال، استمرت معاناة سكان المدينة المدعومين من التحالف العربي الذي كان يتدخل أساسا جويا، بسبب قمع الجماعات المسلحة. وبالفعل تمركز المتمردون الحوثيون في الجبال المطلة على تعز مغلقين مداخلها من الشرق والغرب، ولم يبق سوى المدخل الجنوبي مفتوحا إلى اليوم وهو يؤدي إلى الحجرية ثم عدن عبر الجبال. وبات يخشى منذ أسابيع قليلة بعد استئناف القتال أن يتم غلق هذا المنفذ حيث أعاد الحوثيون مؤخرا تمركزهم على طول الطريق نحو الجنوب وكسبوا أماكن جديدة في منطقة الضالع.
عودة الحياة الثقافية
تم في ربيع 2018 إيقاف عملية "السهم الذهبي" العسكرية التي شنها التحالف على الساحل الغربي، في سهل تهامة عند أبواب الحديدة.
وقد ترتب عن هذه العملية بصفة غير مباشرة هدوءا نسبيا بتعز، حيث كانت القوات مشغولة بجبهات أخرى. وبالتالي راحت الديناميكية التي انطلقت في وسط المدينة بعد انسحاب الحوثيين تتسع إلى نحو نوع من التطبيع. وقد شهدت هكذا الأحياء التي عادت تدريجيا إلى سيطرة الحكومة وبدعم من السلطات المحلية بعض التحسن. وأدت مجهودات المنظمات غير الحكومية إلى نتائج مثيرة للإعجاب، كما أدى دفع الأجور من طرف الدولة بصفة منتظمة نوعا ما إلى تغيير في الوضع. كذلك تمكن الطلاب من استئناف عامهم الجامعي على أنقاض المدرجات المخربة، وحاولت المستشفيات أن تبقى قدر الممكن مفتوحة على الرغم من استمرار الهجمات. وأخيرا تمكنت الحياة الثقافية من الانتعاش مجددا معتمدة على حماس بعضهم: تم عرض مسرحيات، كما شهدت الأعياد احتفالات بالحدائق العمومية وتم مؤخرا تنظيم معرض للكتاب على الرغم من تطرف ديني برز مؤخرا وتم تضخيمه من طرف وسائل الإعلام.
وبالفعل أدى تحرير جزء كبير من تعز إلى تفاقم التنافس الداخلي في الصف المناهض للحوثيين. فتضاعفت الاشتباكات الدامية بين أمراء الحرب وعلى الخصوص بين المقربين من حزب الإصلاح، وهم فرع من الإخوان المسلمين، والسلفيين. ويبدو أن التطبيع على المستوى السياسي ما يزال مستحيلا. لم يتمكن بعد المحافظ الجديد، نبيل شمسان، المعين في مارس 2019 من الإقامة بالمدينة، وهو رابع محافظ منذ 2015 في هذا المنصب. وتبقى الخلافات في الصف المعادي للحوثيين كبيرة إلى حد أنه لا يمكن لأية شخصية أن تنال القدر الكافي من الدعم من أجل أداء مهمتها.
خلافات داخل التحالف
قامت الأحزاب السياسية بتعز ولمدة طويلة بملأ الفراغ الذي تركه نظام قبلي أكثر هشاشة هناك منه في باقي اليمن، ولكنها أحزاب تابعة أكثر من أي وقت مضى إلى داعميها في الخارج. فالحزب الإسلامي /الإصلاح/ يتمتع بقاعدة شعبية تضاهي دون شك تلك التي يحظى بها /مؤتمر الشعبي العام/، الحزب الذي أسسه الرئيس السابق علي عبد الله الصالح، والذي ما يزال ينتمي إليه الرئيس الهادي. أما الأحزاب الوطنية واليسارية، فقد جعلت منذ وقت طويل من تعز معقلا مميزا لها، مما أدى إلى مشهد حزبي مشتت للغاية. وهكذا فإن وجوها كبيرة في قيادات الأحزاب السياسية اليمنية يعود أصلها إلى تعز: فرشاد العليمي وسلطان البركاني من مؤتمر الشعب العام، وعبد الملك المخلافي وسلطان العتواني من الحزب الناصري ومحمد قحطان من حزب الإصلاح، لهم وجود لا يمكن نكرانه على المستوى الوطني. ولكن هؤلاء القادة تركوا المكان للمقاتلين والفوضى.
ولم يكن الاستقطاب السياسي بدون أثر. فبعد ابتعاد الحوثيين عن مركز المدينة، أصبحت تعز تدريجيا ميدانا مميزا لاقتتال أخوي داخل المعسكر المناهض للحوثيين. فصار إخوان السلاح بالأمس يحاربون بعضهم بعضا ويقتتلون، ليس فقط للاستيلاء على مدينة منهكة، بل أيضا في إطار التنافس الجاري بين بلدان الخليج. وقد تضاعفت الاشتباكات خلال ربيع 2019 مما أدى على الخصوص إلى اغتيال ضابط الشرطة عبد الله المخلافي.
أدى الدعم المقدم إلى حزب الإصلاح من طرف قطر إلى نشوب مواجهة مع الأحزاب الوطنية واليسارية، وعلى الخصوص الناصريون الذين تمركزوا في صف دولة الإمارات العربية المتحدة المهووسة بمحاربة الإخوان المسلمين وبقطر.
في مواجهة هذه التوترات، انضم العسكريون على المستوى المحلي هم أيضا إلى هذا الاستقطاب. وهكذا اقتربت الميليشيات التي يقودها أبو العباس، وهو شخصية سلفية محلية، من اللواء رقم 35 من جيش المشاة على الرغم من أن هذا الأخير مقرب من الناصريين والاشتراكيين. ويعد الدعم الإماراتي لهذه الجماعة الإسلامية، المصنفة على أنها إرهابية من طرف مجلس تعاون الخليج، أمرا محرجا ويبرز حدود السياسة التي تنتهجها أبو ظبي.
لكن أبو العباس ورجاله أصبحوا اليوم في موقف ضعف واضطروا إلى الانسحاب نحو جنوب المدينة. ومن جانبها تعتبر وحدات اللواء رقم 22 المقيمة بقلب تعز وفية لحزب الإصلاح.
وبالتالي يبدو أن دولة الإمارات تخشى أن تسقط المدينة ، بعد مأرب شرق صنعاء، بين أيدي الإصلاحيين. وقد ساهمت حساباتها المبنية على تحالفات عكسية بشكل كبير في الزج بالمدينة في عنف يتجاوز السكان وفي اقتصاد حرب ذو إشكال.
مصدر دخل كبير
إذا كانت تجاوزات التحالف العربي محل إدانة منتظمة في وسائل الإعلام الدولية التي هي عموما منتقدة للعربية السعودية، فهناك أشكال أخرى من العنف تحدث دون أن تلاحظ، ويعاني من ظلمها سكان تعز يوميا. فقد أدى التركيز على تجاوزات التحالف بالمنظمات الدولية إلى التخلي عن مصير تعز، ولم تعد بالتالي المدينة ملفا أوليا لجهود التهدئة وأيضا للحملات العسكرية التي يقودها التحالف.
ويحدث ذلك مع أنه بالنسبة للحوثيين مازالت المدينة تحتل دورا مركزيا خاصة وأنها تسمح بالتحكم في الصناعات الغذائية الزراعية. فقد صرح المحافظ السابق، علي المعمري، بأن الحوثيين يجنون منها أكثر من 25 مليار ريال في السنة أي حوالي 8 % من عائدات الدولة خارج البترول وقت السلم.
وعلى المستوى الهيكلي أدت الحرب إلى تغيير في العمق في الخطوط الفاصلة في اليمن. فقد أصبحت حدود ما قبل 1990 بين اليمن الشمالي واليمن الجنوبي متجاوزة بشكل كبير، مع أن هناك كثير من اليمنيين ما يزالون يخشون المحاولات الصريحة لبعض الفاعلين الجهويين والانفصاليين الجنوبيين بإعادة تقسيم البلاد وفق الخط القديم.
ويغطي الاقتتال في تعز على هذه المسارات، فالتعزيون الذين هم فعلا من الشمال يعارضون الحوثيين وفي نفس الوقت يعانون من كون أن لهم صورة سيئة في الجنوب منذ سنوات. فهم يحسبون على الإخوان المسلمين الذين هم محط كره من طرف الداعمين الإماراتيين للجنوبيين. وهكذا تم طرد عمال بسطاء وطلبة تعزيين من عدن، وتعرضوا لسوء المعاملة بسبب الخطاب التآمري الذي يحمله الانفصاليون.
ويولد التهميش الاستراتيجي للمدينة سخطا كبيرا لدى السكان مما يسهل تجنيد الشباب من طرف الجماعات الاسلامية أو أي جماعات مسلحة وأيضا استغلالهم من طرف بلدان الجوار.
وهكذا تم تجنيد العديد من التعزيين مقابل أجر للقتال في شمال البلاد في محافظات الجوف وصعدة باسم الدفاع عن الحدود السعودية. كما وجدت الجماعات الإسلامية ضالتها وجعلت من تعز أرضا خصبة للتمركز. وقد أحدثوا هكذا قطيعة مع تاريخ المدينة التي تميزت بالمشاركة في مسار التحديث عبر مؤسسات الدولة. ومما لا شك فيه فإن الأفضلية المعطاة للعنف أدت إلى تحلل المجتمع دون أن ينهي التهميش الذي تتعرض له هذه المدينة اليمنية الكبيرة.
نقلا عن مجلة أوريان 21