فالدولة البسيطة التي كانت عليها اليمن قبل 2014 - ورغم كل الانتقادات التي وجهت لها والتوجه العام للانفكاك منها عبر مقررات مؤتمر الحوار الوطني الشامل ووثيقته - ظلت خيارا يمكن الرجوع إليه - سياسيا - لو تغيرت الظروف ، وتبدلت الوقائع ، وتحسن المزاج الشعبي العام ، لسبب أو لآخر.
إذ أن المشكلات الناتجة عن شكل الدولة القائم - والتي انطلقت من مفاسد المركزية الإدارية والمالية - لم تتجاوز في ذروتها حتى ذلك التاريخ حدود مفاسد المركزية السياسية. مما ترك الحلول مفتوحة على العديد من الخيارات اللامركزية البسيطة منها والمركبة.
لكن الانقلاب - وعبر أبعاده المدمرة - نقل المشكلات من حدودها السياسية. إلى عمقها الاجتماعي. محولا الخصومات الجماعاتية ، إلى كراهية مجتمعية.
فماذا نعني بأبعاد الانقلاب المدمرة ؟
لقد ضرب الانقلاب الحوثي بأطنابه في الواقع السياسي اليمني عبر أربعة أبعاد سمحت له - رغم عزلته النفسية والاجتماعية - من التمدد والانسياح المدمر في مناطق ومحافظات لم يكن يحلم مجرد حلم أن يجد له فيها ( صارخا ) وبصورة ( تجريفية ) لم يسبق لها مثيل . وهذه الأبعاد هي :
أولا : السلالية : فضم عبر هذا البعد كما كبيرا من الهاشميين من مختلف التيارات والأحزاب والمذاهب والأفراد . فظهر هنا انقلابا سلاليا . ساهم في المقابل في إحياء العصبيات القومية المندرسة .
ثانيا : الطائفية : بها توسع خارج إطار السلالة محتويا ( الزيدية المذهبية ) احتواء شبه كامل . بحيث أصبح ممثلها الشرعي والوحيد.
وبصبغة اثناعشرية ، أخرجتها عن كونها زيدية قسيمة للشافعية ، إلى تشيّع قسيم للسنة. فظهر هنا انقلابا طائفيا ساهم في بعث العصبيات الطائفية الدفينة.
وهذان البعدان تولى كبرهما الحوثي دون صالح في تحالف الانقلاب. بينما تولى صالح تهيئة البعدين الآتيين وهما:
توزيع السلطة يقطع الطريق على كل مستبد مناطقي ، أو مستعبد سلالي ، أو مفسد حزبي. وتوزيع السلطة لا يجزئ اليمن بقدر ما يجزئ مشكلته وبالتالي يسهل التعامل معها وعلاجها.
ثالثا : المناطقية : وبها احتوى سكان مناطق الزيدية التاريخية - ( من سمارة مطلع ) بحسب التعبير الشعبي - باعتبارهم أصحاب مصلحة في الانقلاب الذي سيعيد إليهم الحكم الذي لا ينبغي أن يخرج من أيديهم لصالح ( اليمن الأسفل ) بحسب تعبير شياطين الانقلاب ومحرضيهم. فظهر هنا انقلابا مناطقيا.
ساهم في تأجيج العصبيات المناطقية.
رابعا : الحزبية : وبها سوّق نفسه في سائر جهات ومحافظات ومناطق اليمن. بحيث يتم احتواء من لم يكن سلاليا ولا طائفيا ولا مناطقيا من أبناء اليمن حزبيا باسم المؤتمر الشعبي العام (جناح صالح ). ليظهر هنا انقلابا حزبيا. ساهم في تعزيز العصبيات الحزبية.
وفي الوقت الذي أُعلن فيه عمليا انفكاك التحالف الحوثي المؤتمري - بانتفاضة صنعاء ، ومن ثم مقتل صالح - كان زمام البعدين الثالث ، والرابع ( المناطقية والحزبية ) ، قد انتقل فعليا من يد صالح ، إلى يد الحوثي. الذي لم يفته المسارعة إلى اقتسام تركة الرجل المريض قبل أن يصيّره رجلا قتيلا.
ومع مجموع هذه العصبيات النتنة التي بعثها الانقلاب بأبعادة الاربعة. ( معمدا إياها بالدماء ) ، وملغيا بها صورة يمن فبراير الجميل الذي غير نظرة العالم إيجابيا تجاه اليمن. بل وغير نظرة اليمنيين أنفسهم تجاه أنفسهم .
مع مجموع هذه العصبيات الانقلابية كان من الصعب على النسيج الاجتماعي اليمني أن يبقى محافظا على متانته وتماسكه. خاصة مع انتقالنا من مصطلحات أكثر إثارة ك( الانفصال ، فك الارتباط ، تقرير المصير ) إلى مصطلحات أكثر عمقاً ك( الأقليات ، السكان الأصليين ، الأقيال والأبناء ) .
الأمر الذي يجعل معترك ما بعد الانقلاب أوسع مساحة ، وأخطر مواجهة ، وأثقل حملا ، من معترك الانقلاب ذاته.
كما ينقل مشروع اليمن الاتحادي من دائرة القرار الاختياري إلى دائرة الاتجاه الإجباري. الذي لن تزيد الأزمات - بدونه - إلا تأصلا. والحروب إلا تواصلا. والنسيج الاجتماعي إلا تفككا وتمزقا.
فتوزيع السلطة يقطع الطريق على كل مستبد مناطقي ، أو مستعبد سلالي ، أو مفسد حزبي .
وتوزيع السلطة لا يجزئ اليمن بقدر ما يجزئ مشكلته وبالتالي يسهل التعامل معها وعلاجها.
وتوزيع السلطة ينشط روح المنافسة الإيجابية بين اليمنيين ، بدل روح ( النفسنة ) والتحاقد والاتهامات المتبادلة بسرقة الحقوق وأكل الثروات.
وتوزيع السلطة يجعل لجغرافيا اليمن المختلفة مكانها الواجب في دواوين اتخاذ القرار ، وميادين تنفيذه .
.. فليُدبر الانقلاب بأبعاده .. وليُقبل اليمن باتحاده ..