وعرفنا بعضنا أكثر حين جلسنا معاً على أرضية "المعلامة" -فلم تكن أيامها ثمة حضانة أو روضة- ثم حين دلفنا إلى حوش المدرسة وفصولها لأول مرة.. ورحنا نتلمّس أبجدية الحرف والشكل والشعور بصورة مغايرة.. ثم نتعرّف على معنى الوطن بالخطاب المدرسي والخارطة الحائطية، قبل أن نتعرّف عليه بوسائل ومفاهيم أخرى..
وظل التعارف يقوى كلما أنتقلنا من فصل إلى آخر في المدرسة، ومن عراك إلى آخر في الشارع، ومن مغامرة إلى أخرى خارج حدود الحي الشعبي الصغير والحميم..
صار التعارف زمالة.. وصارت الزمالة صداقة.. وصارت الصداقة معنى أكبر لم تُعرِّفه القواميس بعد!
وحتى ذلك الوقت -وقد كنا حينها في المرحلة الثانوية من الدراسة- لم يكن أحدنا يفقه معنى أن يكون لصاحبه انتماء جهوي غير ذلك الذي أرتبط به منذ ساعة مولده. كنا نعتقد ونؤمن بأن جميعنا أبناء منطقة واحدة هي عدن. وكان ذلك الشعور سائداً في أوساطنا -نحن أفراد تلك الشلة الواحدة- حتى النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي.
بعدها، بدأت تفوح في أنوفنا رائحة بدت غريبة ثم شاذّة ثم كريهة، بعثت على الزكام ثم الغثيان ثم الصداع الشديد.. وصرنا نعرف لأول مرة أن واحدنا يختلف عن الآخر جهوياً: هذا بدوي، ذاك جبلي، ذلك جعدي والآخر شحاري .. حتى جاء اليوم الذي تجسّدت فيه هذه الحقيقة الصغيرة زلزلة كبيرة!
يومها، صحونا على حالة فرز تطالنا بحسب الانتماء الجهوي. فكان مؤشر البوصلة الجهوية يقود صاحبه إما إلى المقصلة، وإما إلى المرور بسلام في طريق لم يعد بالضرورة آمناً.
اثنان من الشلة نفسها سيقا إلى المعتقل.. وأُقتيد الثالث إلى حفرة الموت.. ومررنا ثلاثة بأمان إلى منازلنا.. واحتار المسلحون في مفرزة الطريق في أمر السابع، حتى أنقذه أحدهم بالصدفة البحتة لأنه تعرّف إليه، قائلاً: اتركوه يمضي، هذا من جماعتنا!!
بعد هذا الزمن المديد، لم نتجاوز -وربما لن نتجاوز- تراجيديا البوصلة الجهوية، حتى بعد 27 عاماً على التئام الوطن المشطور. أتّضح أن الوطن قد توحّد على الخارطة والكتاب المدرسي والأوراق الرسمية، لكنه ظل مشطوراً في القلوب والرؤوس والضمائر، ولم يعد الانشطار نصفين بل شظايا شتى!
غير أن الأكثر أسى والأشد فداحة والأعمق جرحاً -في الوعي والوجدان الجمعي- أن البوصلة الجهنمية لم تعد جهوية فحسب، بل غدت طائفية أيضاً.
والأدهى أن الثأرات الماضوية عادت من جديد، بعد أن كنا ظنناها قد قُبِرتْ وشبعت موتاً، وكانت عودتها أكثر رعباً وحقارة هذه المرة. فهو انبعاث قيامي جديد لعقود من الموت والموتى، ولتلال من الجثامين والأكفان، ولسياقات محتشدة بكل شتاء القهر وخريف الانتقام.
ما أبشع شهادة الميلاد حين تنحصر في مكان الولادة..
وما أقذر بطاقة الهوية حين تتكثّف في عمامة الطائفة..
وما أصغر الوطن المسكون في القرية، لا ضفاف القلب!
يمن مونيتور