حل بعمي المقدر، وواجه ما يخشاه، وأمسيت عقب فاجعة وفاته، أتوقع ما لا يجب توقعه: مكالمة هاتفية أو سطر في رسالة ترده إلى الحياة. أعرف الآن أن هذا مستحيل، لقد دفن يوم أمس، وجثمانه المعطر بالشذاب والكافور، يرقد تحت الأرض.
لم يكمل الستين بعد، وكنت أتصور أنه سيعيش إلى المائة وما بعدها، سيبقى يحضن ظهر يده بكفه الأخرى ويميل بوجهه إلى الأمام، يتكلم ويبتسم ويكمل قصصه بالطريقة ذاتها: "أهه.. وأهه" قبل أن يرد رأسه إلى الوراء ويملأ بضحكته المكان كله.
أدرك الآن بعد فوات الوقت أنني لم أدخر أية احتمالات لمواجهة مفاجأة الموت، وها أنا الآن عاجز عن تهدئة وجع الفقد المبكر.
وهذا السيل من الذكريات والصور والضحكات لا يريد أن يتوقف.
في العام 2000 كنت في سنتي الأخيرة بكلية التجارة والاقتصاد في جامعة صنعاء مع نجله الأكبر عادل، زميلي في العلوم السياسية، وكان هو يستعد للحصول على الدكتوراه في الاقتصاد من القاهرة، وفي تلك الأيام جمعنا لأول مرة مقيل مشترك، كان في ركن المجلس، يتكلم عن السياسة وعلاقتها بالاقتصاد، يتوقف أحياناً عن الحديث، ويتذكر إحدى القصص الشعبية، أو حكاية من القرية ليستشهد بها على ما كان يقوله. في السنوات الأخيرة أصبحت عمتي تساعده في سرد القصة أو بعض تفاصيلها، تقاطعه، فيقاطعها: " يا هدية مش هكذا.. "، أو يدير رأسه تجاهي، ويستدعي ضحكة تجلب الضحك ويتمتم: "هيا اسمعها من عمتك".
في الليلة التي سبقت رحيله، استشهد في رسالته بالمثل الذي يردده كلما ضاقت الدنيا على أحوال البلاد: "هي خاربه من سفال النقيل"، ولا أريد أن استخلص من الرسالة أية إشارات لقرب رحيله، هو لم يكن يفكر بالموت، ويتجنب ذكره باستمرار، ولم تكن هناك من طريقة لحمايته من هذا "الغريم" سوى بتخليده في كتاب، ولذلك أخذ لقب "العم قاسم" في رواية "دبي صنعاء والعودة". وبقى ضميره على امتداد الصفحات معبراً عن اليمن الذي أردناه معاً.. هل يكفي هذا لتخليده؟ لا أدري.
قرأت ذات مرة أن الموتى لا يتوقفون عن الحياة تماماً، بل يتحولون إلى ضوء يسافر في الفضاء، أو شعاعاً يذهب إلى المستقبل
قرأت ذات مرة أن الموتى لا يتوقفون عن الحياة تماماً، بل يتحولون إلى ضوء يسافر في الفضاء، أو شعاعاً يذهب إلى المستقبل، وأظن "الدكترة" كذلك.
هو ليس مجرد جثمان في حفرة أو كفناً في الظلام، ويحلو لي وأنا أعزي نفسي بهذه الفكرة أن أنظر إلى السماء وأصيح: "ما يلزمك يا دكتور؟ أمانة أمانة". فقد اعتاد - رحمه الله – على طرح هذا السؤال في نهاية كل مكاملة هاتفية وعند كل وداع.
هذه الكتابة هي مجرد محاولة أخرى للعلاج من الذكريات والأصوات التي تتكرر في أذني منذ ما قبل أمس، وقد حاولت أن أتجنب عذاباتها، بالبكاء والدعوات، ويخطر لي ما لا أريد أن يخطر لي: كيف ستبقى صنعاء صنعاء، وشارع تعز شارع تعز، ماذا عن المجلس والمدكى ومحل الحلوى وكافتيريا العصير.. ثم ألوذ بالدعوات: أسأل الله أن يساعدني وزوجتي وأهل عمي على تجاوز هذه المحنة. وأن تنقضي هذه الأيام الصعبة بسرعة، وأن يتوقف هذا السؤال الذي لا يزال في أذني: " ما يلزمك يا ابني.. أمانة أمانة" و أشرغ بالجواب: "يلزمني الآن كل شيئ".
من صفحتة في الفيس بوك