لسنا بحاجة إلى الحديث عن الزمن الذي سبق هذا التاريخ فقد انطوى سريعاً بالهزيمة العسكرية والسياسية التي مني بها المشروع التحرري العربي بكل ما علق به من أحلام وما حمله من إعلام
إنطوت صفحته بخطاب التنحي الذي أطلقه الزعيم عبد الناصر عشية الهزيمة ليلة العاشر من يونية ٦٧ أي بعد خمسة أيام من بدء الحرب
ما جرى بعد ذلك من محاولات لاستعادة النهوض على الأقدام كان مجرد تفاصيل لم تغير من حقيقة أن ذلك الزمن قد انطوى وانكسرت معه المخيلة الشعبية التي رسمت أحلامها في الحواري ومخيمات الصفيح وقيعان الارض وشواطئ البحار التي تعج بأكواخ الصيادين وقواربهم وورش ومصانع النسيج والحديد والصلب والاسمنت
يوم ١١ يونيو ٦٧استيقظ العالم العربي ليطرح سؤالاً كبيراً وماذا بعد ؟
الذي حدث هو أن الزمن الآخر بدأ في التشكل بالصيغة التي استكمل فيه مشوار الضياع لأمة توفرت لها كل مقومات النهوض والرقي لكنها فشلت في تحديد الخيارات الموصلة الى الطريق
جاءت لاءات الخرطوم الثلاث الصادرة عن القمة العربية المنعقدة هناك بعد أشهر من النكسة لتبدو وكأنها رفض للهزيمة ، غير أنها لم تكن غير محاولة لترميم الكبرياء المجروحة ، كما أنها لم تقدم إجابة على ذلك السؤال إلا فيما فهم بأنه توافق على تناسي الخلافات بين الأنظمة أمام ما تعرض له العرب من هزيمة من قبل اسرائيل
نقف هنا لنكرر السؤال ما الذي حدث بعد ذلك
الذي حدث هو أن الزمن الآخر بدأ في التشكل بالصيغة التي استكمل فيه مشوار الضياع لأمة توفرت لها كل مقومات النهوض والرقي لكنها فشلت في تحديد الخيارات الموصلة الى الطريق المفضي إلى ذلك
تصادمت الخيارات والمشاريع ولم يسمح لها أن تتعايش أو تتفاهم أو حتى تتنافس بما يجسد الحاجة لتماسك المجتمعات واحترام إرادة الناس
كان هناك من يصنع أدوات المواجهة لتتلقفها تلك المشاريع لتواجه بعضها في معارك تستخدم فيها كل أدوات القمع والتشهير والتآمر ...
وكان صناع هذه الأدوات يعملون باستراتيجية واضحة . تدمير الجميع
اليسار ، شيوعيون وعملاء للاتحاد السوفيتي ولا يصلحون للحكم في بلاد إسلامية . حورب اليسار تحت هذا العنوان ، وجرى تأليب المجتمعات ضد مشروعه السياسي والاجتماعي وحوصر ضمن عملية تشبيك سياسي وفكري قهري واسعة انخرطت فيها المشاريع الاخرى ظناً منها أن إقصاء اليسار سيسهل مهمتها في تسويق مشاريعها . وفعلاً توارى في صورة نخب مفككة ،كلما حاولت أن تعيد لملمة أجزاءها رفع في وجهها التكفير كمحرض اجتماعي تكمن خطورته في أنه ظل سهل الانقياد بسبب التخلف الثقافي والمعرفي . وهو ما سنلحظه في حالات أخرى من التحريض
القوميون ، علمانيين ، مهزومين في إشارة إلى نكسة حزيران ، ممزقين باحثين عن السلطة في اشارة الى تجربة البعث في كل من سوريا والعراق ، فَلَو انهم يحملون فكراً يوحد هذه الأمة لاختبروه في هذين البلدين المتجاورين والمحكومين بنظام بعثي ، بهذه الاطروحات جرى تفكيك هذا المشروع الذي لم يستطع ان يقاوم طغيان السلطة ليتشكل داخل أحزمة من الممنوعات والمحرمات بحجة مواجهة تحديات التصفية . ساهمت المشاريع الاخرى في الترويج لهذه الأدوات التي أنتجها صناع الضياع في صورة تحريض اجتماعي لم يقل ضرره عن الضرر الذي لحق باليسار
في محور آخر قريب من هذا المشروع تخلقت داخل الجمهوريات أنظمة مستبدة وفاسدة ، واُخرى فاسدة مزجت بين الصعلكة والاستبداد (اليمن نموذجاً) ، فيما بدا أنها صناعة استهدفت بدرجة أساسية قيم المجتمعات ، مع بنى اقتصادية مشوهة تشوهت معها البنى الاجتماعية بصورة لم تعد معها تلك المجتمعات قادرة على إعادة التشكل بصورة مدنية في إطار منظمات قادرة على حماية حقوق المجتمع السياسية والقانونية ، وكان هذا صورة من صور الضياع التي حملها زمن ما بعد النكسة
تخلقت داخل الجمهوريات أنظمة مستبدة وفاسدة ، واُخرى فاسدة مزجت بين الصعلكة والاستبداد (اليمن نموذجاً) ، فيما بدا أنها صناعة استهدفت بدرجة أساسية قيم المجتمعات
الإسلاميون ، إعتقد الاسلاميون أنهم البديل الذي لا يأتيه الباطل .. غير مدركين حقيقة أن ما لحق بغيرهم من تفكيك وتشويه لم يكن غير صناعة استهدفت تسويق مشروع الضياع الذي يجب أن يغرق فيه العرب جميعاً بكافة نحلهم وأطيافهم . صناع مشروع الضياع هذا هم من نشروا إن الاخوان وهم ركيزة الإسلاميين صنيعة الإنجليز ، وكانت هذه هي البداية التي أخذت تنخر في هذا المشروع ، وهو ما تلقفه الآخرون كرد فعل ، وأخذوا يسوقونه على نطاق واسع ، حتى إذا ما قررت أمريكا استخدام الدين في مواجهة الاتحاد السوفييتي في معركة كسر العظم في أفغانستان انخرط الاسلاميون ، بحجة الجهاد، في معركة لم تكن معركتهم في الاساس ، وهي المعركة التي كانت بداية انتاج نقيض هذا المشروع من داخله ، أو لنقل معول تحطيمه، الاٍرهاب القاعدة وداعش، وبشكل مقصود ، ليستكمل صناع مشروع الضياع الحلقة الشريرة حول هذه الأمة لتبدو وكأنها فقدت البوصلة نحو الطريق الذي يصلها بالنهوض والتقدم
زمن الضياع أو التيه الذي يمتد لخمسين سنة هو الزمن الذي تصادمت فيه هذه المشاريع وسلمت أمرها للاستبداد الذي تغذى من فشلها الذريع ، وحاربت بعضها نيابة عنه ، حتى هيأت له السيطرة الكاملة وإقصائها على نحو عكس خيبتها التي لم تتمكن معها من إعادة بناء الفكرة على قاعدة مختلفة من التماثل مع حاجات مجتمعاتها إلى الحرية والديمقراطية والتعايش والسلام .