كبداية، يجدر تذكر أن الإسلام، في شكل الإمبراطورية العثمانية، ساعد البروتستانتية على النجاح والنجاة. في القرن السادس عشر، كان الكثير من أوروبا يخضع لهيمنة "الإمبراطورية الرومانية المقدسة"، التي امتلكت وسائل وفيرة لسحق الهراطقة البروتستانت. لكن نفس الإمبراطورية الكاثوليكية كانت مهددة باستمرار من "التُرك" الذين أبقوها مشغولة، والذين قدم بناؤهم إمبراطوريتهم الخاصة المساعدة للبروتستانت عن غير قصد. وكما لاحظ جيه. إيه. وايلي في كتابه الكلاسيكي "تاريخ البروتستانتية"، فقد "كان الترك بمثابة مانعة الصواعق الذي أجهضت قوة العاصفة. هكذا غطى المسيح قطيعه الصغير بدرع المسلمين".
لكن الأهم من ذلك، هو أن بعض البروتستانت الأوائل، الذين كانوا يسعون بيأس إلى تحصيل الحرية الدينية لأنفسهم، وجدوا الإلهام في مسعاهم في الإمبراطورية العثمانية التي كانت أكثر تسامحاً مع التعددية الدينية من معظم الممالك الكاثوليكية. وقد أبدى جان بودين، الذي كان هو نفسه كاثوليكياً -وإنما منتقداً- إعجابه بهذه الحقيقة. وكتب الفيلسوف السياسي في ثمانينيات القرن السادس عشر: "إمبراطورية الترك العظيمة لا تزدري أديان الآخرين، وإنما -على العكس من ذلك- تسمح لكل شخص بأن يعيش وفق ضميره". وهو السبب في أن لوثر نفسه كتب عن البروتستانت الذين "يريدون مجيء التُرك ليحكموا، لأنهم يعتقدون أن شعبنا الألماني همجي وغير متحضر".
لا شك في أن تلك الأيام ولت منذ وقت طويل. وقد أفضت الاضطرابات العظيمة في الغرب، والتي بدأت بالإصلاح البروتستانتي، في نهاية المطاف إلى التنوير، والليبرالية، والديمقراطية الليبرالية الحديثة –إلى جانب إلى النتاجات الأكثر قتامة للحداثة، مثل الفاشية والشيوعية. وفي الأثناء، لم يتحول تسامح ما قبل العصر الحديث الذي ميّز العالَم المسلم إلى نظام للحقوق المتساوية والحريات. بل على العكس تماماً. فقد تضاءل هذا الاتجاه لصالح تيارات القومية المتشددة والأصولية الدينية التي شرعت في النظر إلى غير المسلمين على أنهم أعداء في الداخل. وهو السبب في أن المسلمين الساعين إلى الحرية اليوم، والذين ينظرون إلى الحضارة الأخرى، الغرب، يُعجبون بما تفعله "السماح لكل إنسان بالعيش وفق ضميره
لكن الأهم من ذلك، هو أن بعض البروتستانت الأوائل، الذين كانوا يسعون بيأس إلى تحصيل الحرية الدينية لأنفسهم، وجدوا الإلهام في مسعاهم في الإمبراطورية العثمانية التي كانت أكثر تسامحاً مع التعددية الدينية من معظم الممالك الكاثوليكية. وقد أبدى جان بودين، الذي كان هو نفسه كاثوليكياً -وإنما منتقداً- إعجابه بهذه الحقيقة. وكتب الفيلسوف السياسي في ثمانينيات القرن السادس عشر: "إمبراطورية الترك العظيمة لا تزدري أديان الآخرين، وإنما -على العكس من ذلك- تسمح لكل شخص بأن يعيش وفق ضميره". وهو السبب في أن لوثر نفسه كتب عن البروتستانت الذين "يريدون مجيء التُرك ليحكموا، لأنهم يعتقدون أن شعبنا الألماني همجي وغير متحضر".
لا شك في أن تلك الأيام ولت منذ وقت طويل. وقد أفضت الاضطرابات العظيمة في الغرب، والتي بدأت بالإصلاح البروتستانتي، في نهاية المطاف إلى التنوير، والليبرالية، والديمقراطية الليبرالية الحديثة –إلى جانب إلى النتاجات الأكثر قتامة للحداثة، مثل الفاشية والشيوعية. وفي الأثناء، لم يتحول تسامح ما قبل العصر الحديث الذي ميّز العالَم المسلم إلى نظام للحقوق المتساوية والحريات. بل على العكس تماماً. فقد تضاءل هذا الاتجاه لصالح تيارات القومية المتشددة والأصولية الدينية التي شرعت في النظر إلى غير المسلمين على أنهم أعداء في الداخل. وهو السبب في أن المسلمين الساعين إلى الحرية اليوم، والذين ينظرون إلى الحضارة الأخرى، الغرب، يُعجبون بما تفعله "السماح لكل إنسان بالعيش وفق ضميره
في واقع الأمر إذا كان العالم المسلم اليوم يشبه أي فترة في التاريخ المسيحي فإنها ليست فترة ما قبل الإصلاح وإنما فترة ما بعد الإصلاح على الأغلب
وهو السبب أيضاً في أن هناك أناساً اليوم، خصوصاً في الغرب، ممن يعتقدون أن قدوم "مارتن لوثر مسلم" هو شيء تمس الحاجة إليه. ومع ذلك، وبقدر ما قد يكون هؤلاء حسني النية، فإنهم مخطئون. لأنه في حين شكل إرث لوثر انفصالاً عن احتكار الكنيسة الكاثوليكية للمسيحية الغربية، فإن الإسلام ليس لديه مثل هذا الاحتكار الذي يحتاج إلى تفكيك. ببساطة، ليس هناك "بابا إسلامي"، أو منظمة مركزية مثل التسلسل الهرمي الكاثوليكي، والذي تحتاج سلطته الخانقة إلى الكسر. بل على العكس تماماً، ليس لدى العالم الإسلامي –أو على الأقل، العالم المسلم السني، الذي يشكل أغلبيته العظمى- أي سلطة مركزية على الإطلاق، خاصة منذ قضاء تركيا الجمهورية على الخلافة في العام 1942. وتبدو الفوضى الناشئة في حد ذاتها جزءاً من "المشكلة".
في واقع الأمر، إذا كان العالم المسلم اليوم يشبه أي فترة في التاريخ المسيحي، فإنها ليست فترة "ما قبل الإصلاح"، وإنما فترة "ما بعد الإصلاح" على الأغلب. وكانت هذه حقبة لم تقتصر على الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت فحسب، وإنما أيضاً انطوت أيضاً على صراعات بين التنويعات المختلفة من الأخيرين، حيث زعم المعتقدون بالصواب الذاتي أنهم المؤمنون الحقيقيون، في حين دانوا الآخرين بوصفهم هراطقة. وكان ذلك زمناً موسوماً بالحروب الدينية واضطهاد الأقليات اللاهوتية. وسوف يكون من باب الإفراط في المبالغة الزعم بأن كل العالم الإسلامي يمر الآن بمثل هذه الفتنة الطائفية الدموية، لكن بعض أجزائه –مثل العراق وسورية واليمن- تعيش ذلك بلا شك.
إلى جانب ذلك، ظهرت مختلف الحركات "الإصلاحية" مسبقاً في العالم الإسلامي خلال القرنين الماضيين. وتماماً مثل إصلاح لوثر، ادعت هذه الحركات العودة وراءً إلى الجذور الروحية للدين من أجل استنطاق التقليد القائم والتشكيك فيه. وفي حين اتخذ بعض الإصلاحيين هذه الخطوة بنية العقلنة والتحرير، وزودونا بالتيار الواعد المسمى "الحداثة الإسلامية"، فقد فعل آخرون ذلك بالهدف المعاكس تماماً، والمتمثل في الترويج للدوغماطية والتطهيرية الأصولية المتطرفة. وأنجب الاتجاه الثاني السلفية، بما في ذلك نسختها الوهابية السعودية، الأكثر تصلباً وتعصباً من التيار التقليدي السائد. وفي حين كان معظم السلفيين غير عنفيين، شكل العُنفيون منهم المزيج السام لما يُدعى "السلفية الجهادية" التي أنجبت لنا وحشية تنظيمي القاعدة و"داعش".
هذا هو السبب في أن على أولئك الذين يأملون أن يروا عالماً إسلامياً متسامحاً وحراً ومنفتحاً أن لا يسعوا إلى شيء يعادل الإصلاح البروتستانتي، وإنما إلى ما يشابه النموذج العظيم التالي في التاريخ الغربي: التنوير. ولا يحتاج العالم الإسلامي المعاصر إلى مثال مارتن لوثر، وإنما إلى مثال جون لوك، الذي غرست أطروحاته عن الحرية والضمير والتسامح الديني بذور الليبرالية. وبشكل خاص، يستطيع التنوير البريطاني الأكثر صداقة للدين، وليس الفرنسي، أن يكون نموذجاً بناءً. (وكما قلتُ في مكان آخر، يجب إيلاء اهتمام خاص للتنوير اليهودي، الذي يدعى "هاسكالاه"، ورواده من أمثال موسى مندلسون. خاصة وأن لدى الإسلام، كديني قانوني، أوجه تشارك مع اليهودية أكثر مما له مع المسيحية).
لحسن الحظ، كانت الجهود الرامية إلى التنوير الإسلامي حاضرة منذ القرن التاسع عشر، في شكل "الحداثة الإسلامية" المذكورة أعلاه. وقد أوضح المؤرخ البريطاني، كريستوفر دي بيليغ، بشكل حاسم إنجازات هذا التيار في كتابه الصادر مؤخراً بعنوان "التنوير الإسلامي". كما لاحظ، محقاً، أيضاً أن هذه الحقبة الواعدة –التي أطلق عليها المؤرخ الراحل ألبرت حوراني أيضاً اسم "العصر الليبرالي" للفكر العربي- خطت خطوة رئيسية إلى الوراء في القرن العشرين مع وجود الاستعمار الغربي وردود الفعل التي أثارها. ثم جاءت موجة "التنوير المضاد" التي تمثلت في الانبعاث الأصولي الذي أنجب الإسلاموية والجهادية.
نتيجة لذلك، أصبح العالم الإسلامي اليوم مكاناً بالغ التعقيد، حيث العلمانيون، والإصلاحيون الليبراليون، والمحافظون غير الليبراليين، والأصوليون المتحمسون، والجهاديون العنيفون، يتمتعون كلهم بدرجات متفاوتة من التأثير من منطقة إلى أخرى، ومن دولة إلى أخرى. والسؤال الملح الآن هو كيف يمكن تحريك هذا العالم في اتجاه إيجابي.
لأنها لا توجد سلطة دينية مركزية تضطلع بريادة الطريق، ينبغي أن يفكر المرء في السلطة الوحيدة النهائية المتاحة، والتي هي الدولة. وسواء كنا نحب ذلك أم لا، فإن الدولة كانت بالغة النفوذ على الدين خلال تاريخ الإسلام كله. بل وأصبحت أكثر نفوذاً في القرن الماضي، عندما تبنى المسلمون بأغلبية ساحقة نموذج الدولة القومية وأدواتها القوية، مثل التعليم العام
إذا كان الإصلاح البروتستانتي يعلمنا شيئاً فهو أن الطريق من الانقسام الديني إلى التسامح هو طريق طويل ووعر
.
وهكذا، فإن من المهم حقاً ما إذا كانت الدولة تروج تأويلاً متسامحاً أو متعصباً للإسلام. وهو يهم حقاً، على سبيل المثال، عندما تتعهد السعودية، التي تبنت النسخة الوهابية على مدى عقود، بتعزيز "الإسلام المعتدل"، كما فعل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أخيراً، معطياً بعض الأمل في المستقبل. ومن المهم بشكل خاص أن لا تنطوي هذه الدعوة إلى الاعتدال على محاربة الإرهاب فحسب، وإنما يجب أن تتضمن أيضاً تحرير المجتمع من خلال كف يد "الشرطة الدينية"، وتمكين المرأة، و"الانفتاح على العالم وجميع الأديان".
ربما تبدو هذه الأطروحة مناقضة للبديهة بالنسبة لبعض الليبراليين الغربيين، الذين هم عرضة للتفكير بأن أفضل شيء تفعله الدولة هو أن تبقى خارج الدين فحسب. ولكن، في واقعٍ حيث الدولة منغمسة عميقاً سلفاً في الدين، فإن خطواتها في اتجاه الاعتدال والليبرالية ينبغي أن تكون موضع ترحيب. كما يجدر أيضاً تذكر أن نجاح "التنوير" في أوروبا جاء في جزء منه بفضل حقبة "المستبدين المستنيرين" -الملوك الذين احتفظوا بسلطتهم بينما كانوا يجرون إصلاحات قانونية، واجتماعية وتعليمية حاسمة.
عندما ننظر إلى الشرق الأوسط، سنرى أن الدول ذات الأنظمة الملَكية المستنيرة، مثل المغرب والأردن، تقوم بترويج وتعظيم نموذج الاعتدال الديني، على عكس العديد من الجمهوريات "الثورية" التي انتهى بها المطاف كدول استبدادية ذات حزب واحد، أو دول موسومة بطغيان الأغلبية غير الليبرالية. (تبرز تونس وحدها فقط بين هذه الجمهوريات كبقعة مشرقة بشكل استثنائي). وفي ماليزيا، حيث تسنَّت لي مؤخراً فرصة غير متوقعة للتعرف إلى "شرطة إنفاذ الدين"، فإنهم السلاطين هم الذين يحاولون الإبقاء على مثل هؤلاء المتعصبين، ودعمهم الشعبي، تحت المراقبة والضبط.
سوف يتطلب إحداث تنوير إسلامي كامل تحقق شروط أخرى، مثل صعود الطبقة الإسلامية الوسطى (التي سيتطلب صعودها هي نفسها وجود اقتصادات معتمدة على السوق بدلاً من الدول الريعية)؛ وتوفُّر مناخ لحرية التعبير حيث تمكن مناقشة الأفكار الجديدة بلا قمع. ومع ذلك، تعتمد هذه الأمور نفسها إلى حد كبير على القرارات السياسية التي تتخذها الدول أو لا تتخذها.
إذا كان الإصلاح البروتستانتي يعلمنا شيئاً، فهو أن الطريق من الانقسام الديني إلى التسامح هو طريق طويل ووعر. ويوجد العالم الإسلامي اليوم في مكان ما على ذلك الطريق، وربما تنتظرنا المزيد من الليات والمنعطفات في الأمام. وفي الأثناء، سيكون من الخطأ النظر فقط إلى القوى الأكثر ظلامية داخل الأزمة الحالية للإسلام واستنتاج خُلاصات تشاؤمية عن جوهر الإسلام الذي يفترض أنه غير قابل للتغيير.
وهكذا، فإن من المهم حقاً ما إذا كانت الدولة تروج تأويلاً متسامحاً أو متعصباً للإسلام. وهو يهم حقاً، على سبيل المثال، عندما تتعهد السعودية، التي تبنت النسخة الوهابية على مدى عقود، بتعزيز "الإسلام المعتدل"، كما فعل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أخيراً، معطياً بعض الأمل في المستقبل. ومن المهم بشكل خاص أن لا تنطوي هذه الدعوة إلى الاعتدال على محاربة الإرهاب فحسب، وإنما يجب أن تتضمن أيضاً تحرير المجتمع من خلال كف يد "الشرطة الدينية"، وتمكين المرأة، و"الانفتاح على العالم وجميع الأديان".
ربما تبدو هذه الأطروحة مناقضة للبديهة بالنسبة لبعض الليبراليين الغربيين، الذين هم عرضة للتفكير بأن أفضل شيء تفعله الدولة هو أن تبقى خارج الدين فحسب. ولكن، في واقعٍ حيث الدولة منغمسة عميقاً سلفاً في الدين، فإن خطواتها في اتجاه الاعتدال والليبرالية ينبغي أن تكون موضع ترحيب. كما يجدر أيضاً تذكر أن نجاح "التنوير" في أوروبا جاء في جزء منه بفضل حقبة "المستبدين المستنيرين" -الملوك الذين احتفظوا بسلطتهم بينما كانوا يجرون إصلاحات قانونية، واجتماعية وتعليمية حاسمة.
عندما ننظر إلى الشرق الأوسط، سنرى أن الدول ذات الأنظمة الملَكية المستنيرة، مثل المغرب والأردن، تقوم بترويج وتعظيم نموذج الاعتدال الديني، على عكس العديد من الجمهوريات "الثورية" التي انتهى بها المطاف كدول استبدادية ذات حزب واحد، أو دول موسومة بطغيان الأغلبية غير الليبرالية. (تبرز تونس وحدها فقط بين هذه الجمهوريات كبقعة مشرقة بشكل استثنائي). وفي ماليزيا، حيث تسنَّت لي مؤخراً فرصة غير متوقعة للتعرف إلى "شرطة إنفاذ الدين"، فإنهم السلاطين هم الذين يحاولون الإبقاء على مثل هؤلاء المتعصبين، ودعمهم الشعبي، تحت المراقبة والضبط.
سوف يتطلب إحداث تنوير إسلامي كامل تحقق شروط أخرى، مثل صعود الطبقة الإسلامية الوسطى (التي سيتطلب صعودها هي نفسها وجود اقتصادات معتمدة على السوق بدلاً من الدول الريعية)؛ وتوفُّر مناخ لحرية التعبير حيث تمكن مناقشة الأفكار الجديدة بلا قمع. ومع ذلك، تعتمد هذه الأمور نفسها إلى حد كبير على القرارات السياسية التي تتخذها الدول أو لا تتخذها.
إذا كان الإصلاح البروتستانتي يعلمنا شيئاً، فهو أن الطريق من الانقسام الديني إلى التسامح هو طريق طويل ووعر. ويوجد العالم الإسلامي اليوم في مكان ما على ذلك الطريق، وربما تنتظرنا المزيد من الليات والمنعطفات في الأمام. وفي الأثناء، سيكون من الخطأ النظر فقط إلى القوى الأكثر ظلامية داخل الأزمة الحالية للإسلام واستنتاج خُلاصات تشاؤمية عن جوهر الإسلام الذي يفترض أنه غير قابل للتغيير.