مصر مقبلة على مرحلة أشد وأقسى من حكم عبد الناصر والسادات ومبارك، لا مكان فيها لأي حد أدنى من القبول بالاختلاف مهما كان محدودا. كان عهد عبد الناصر عهد استبداد مصحوب بمشروع نهضوي أفسده غياب الحريات وهيمنة أجهزة المخابرات ثم جاء عهد السادات ليكون عهد الانفتاح الاقتصادي الكبير مع انفتاح سياسي محدود وصولا لعهد مبارك الذي اتسم، رغم استشراء الفساد، بحرية صحافة وتعبير كبيرين مع دخول المعارضة إلى البرلمان، سواء كأحزاب معترف بها قانونيا أو تيارات متسامح معها في العموم كالإخوان المسلمين.
عهد السيسي، الحالي والمقبل لا علاقة له بكل ما سبق، إنه خليط هجين من كل مساوئ الفترات السابقة مع تضخم مرضي لـ«الريس» أين منه كاريزمية عبد الناصر وظرف السادات ورصانة مبارك. كل ذلك معطوف عليه ضائقة اقتصادية يئن تحت وطأتها أغلب الشعب المصري ولا تقاس أبدا بما سبق له ان عاناه هذا الشعب الصبور طوال العقود الماضية، مع إعلام مطبل سخيف لم تشهد له مصر مثيلا أبدا في انحداره واستبلاهه للناس.
لا جديد في كل ما سبق ولا عجب من الأسوأ الذي سيأتي لكن ما يجعل الصورة أكثر سوداوية هو هذا الغياب شبه الكامل للمعارضة التي أفسحت المجال واسعا وفسيحا أمام السلطة الحاكمة لتزداد بطشا.
المعارضة المصرية ما زالت تجتر خلافاتها القديمة دون قدرة على التجاوز وامتلاك الشجاعة الضرورية لنقد ذاتي يفتح آفاقا واعدة لمستقبل أفضل لها وللبلاد. «الإخوان المسلون» ما زالوا حبيسي آرائهم القديمة لم يتزحزحوا عنها قيد أنملة، بل وعادوا إلى الدور القديم الذي يجيدونه أكثر من أي شيء آخر وهو دور الضحية الذي تآمر ضده الجميع في الداخل والخارج.
لم يجدوا بعد القدرة على تجاوز قساوة ما تعرضوا له من انقلاب عسكري أطاح بابنهم الرئيس محمد مرسي، المنتخب ديمقراطيا كأول رئيس مدني في تاريخ مصر الحديث، ولا بالبرلمان الذين هم فيه أغلبية.
أما الفصائل السياسية الأخرى فلم تخرج بعد من حالة العداء المستحكمة ضد الإخوان ولا من صدمة أن السيسي وظفهم في معركته ثم رمى بهم جانبا أو في السجون. كان عتابهم القاسي والشديد ضد الإخوان أن هؤلاء لم يفلحوا في إدارة الحكم بأوسع ائتلاف وطني ممكن بعيدا عن التقوقع الأيديولوجي وسذاجة اطمئنانهم للعسكر، لكنهم بدورهم سقطوا في ما لاموا عليه الإخوان فمعظمهم ما زال يكابر ويرفض الاعتراف بأن الغضب المشروع من حكم مرسي وجماعته قادهم في النهاية، عن وعي أو بدونه، إلى وضع يدهم في يد أعداء الثورة فقضوا على كل أحلام 25 يناير بل وحتى أحلام 30 يونيو مقابل تفرد العسكر الذي لا يؤمن لا بهذه ولا بتلك.
طالما أن الإخوان متشبثين بموقفهم دون مراجعة، وكذلك معارضوهم، فإن بإمكان عبد الفتاح السيسي و«الدولة العميقة» الحريصة تماما على استمرار امتيازاتها والرافضة لأي محاسبة أو تغول المؤسسة العسكرية على كل مقدرات البلاد من رغيف الخبز إلى الغواصة العسكرية، فإن بإمكان النظام القائم حاليا أن يمد رجليه كما يريد ويشتهي.
وبين هاتين القوتين الرافضة كل منهما لنقد سياساتها وممارساتها، والرافضة كل منهما للأخرى، ازداد خناق السلطة على قوى المجتمع المدني من غير المنتمين لا لهؤلاء ولا لأولئك. لم يعد هناك مجال لأي قوى مستقلة أن تعمل، على الأقل في الحد الأدنى، كقوة مقابلة للسلطة قادرة على الحد من غلوائها ومن تفرد رئيسها بكل القرارات الاقتصادية والسياسية دون حسيب أو رقيب طالما أن المجتمع بأكمله ومؤسسات الحكم الدستورية قد ضربت بعصا الخوف فلم تعد تتجرأ على شيء.
العنصر الهام الآن في المعادلة المصرية، والتي تزيد من صعوبة توحد المعارضة أو انتعاش مؤسسات المجتمع المدني المستقلة، هو هذا الاحتضان الإقليمي والدولي لنظام عبد الفتاح السيسي. لن تترك المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة هذا النظام وحيدا أو معزولا أو تحت الضغط، وكذلك الرئيس الأمريكي ترامب الذي بلغ به الأمر إلى حد تصريحه بأن لا علم له بالتعديلات الدستورية الجارية في مصر مكتفيا بالإشادة بالسيسي و«العمل الجيد» الذي يقوم به. ومع كل هؤلاء توجد طبعا إسرائيل التي لم تنجح طوال تاريخها في أن تظفر بحكم في القاهرة أفضل لها من الحكم الحالي.
هذا الحكم هو القاطرة التي بدأ معها انتكاس عمليات التغيير الديمقراطي التي دشنتها تونس وأي تراخ لقبضته القوية تعني بالضرورة انتعاشا لساحات أخرى تشهد حاليا مخاضا عسيرا نحو الديمقراطية وأساسا ليبيا والسودان، الجارتين الغربية والجنوبية.
هل معنى ذلك أن استمرار الوضع الحالي في مصر، نظاما ومعارضة، هو قدر محتوم لا مفر منه؟ من الصعب تقديم جواب قاطع أو مسنود.