غرباء على مدن الرماد.. أبناء البحر في غمرة نسيان الجبل.. وأبناء الجبل في متاهة البحر.. وأخرون إنسلوا ذات فاجعة من زحمة الأسفلت ليتعثروا بظِلال فراغ الريف.
ثمة وهنا وهناك تائهين في تضاريس الغياب.
في اليمن البلد الذي تعصف به الحرب منذ بضع سنين، ودع ولده بعناق حار وشد على يده بقوة طالباً منه أن يزوره في أقرب فرصة سانحة.. إلا مخاطر التنقل بين المحافظات سرقت بهجة عناق الأهل ذويهم.
عبدالله عبدالسلام السيد، يتدثر الحزن منذ منتصف فبراير من العام الجاري 2018، على رحيل ولده الصحفي بشير السيد_ رحمه الله، إذ ودعه قبل بضعة أعوام في محافظة تعز بعناق حار، وظل يرقب عودته من العاصمة صنعاء، لكن لم يعُد بشير_ رحمه الله، بل فُجع والده بوفاته وبدل من العناق والنظر في عيني بعض، إكتفى والده بإلقاء أخر نظرة عليه وهو مسجى في ثلاجة المشفى.
دروب الحنين
أوزع دفء المدينة على السالكين دروب الحنين إلى بسمة على عتبات المنازل وأُبقي قليل من الدفء لعطر أحن إليه.
محمد عبده بشر القباطي، في الثلاثينات من العمر _ غادر بلدته القبيطة الواقعة ما بين محافظتي لحج وتعز، وحطت به الرحال في العاصمة صنعاء قبل ما يقارب عقد وبضع سنين، وتعلم مهنة نقش أحجار البناء، إذ لم تُتاح له فرصة الإلتحاق بالمدرسة والتعلم، جراء موت والده وهو ما زال طفل..
كان يقضي أشهر بالعاصمة صنعاء ثم يحزم كيس الملابس وما جمعه من نقود ويعود قريته الريفية بالقبيطة ليعيش في غمرة السعادة مع والدته وأسرته، ومنذ العام 2015 لم يعد يجد عمل فتشرد على أرصفة شوارع العاصمة وذاق مرارة الفاقة والحنين إلى والدته_ الحنين الذي وقف حياله عاجز عن فعل شيء.. جمعني به لقاء على رصيف أحد الشوارع بالعاصمة صنعاء.
سألني: هل أمك موجودة أو قد توفيت، وأجبته موجوده.. تأوه بحسرة ووجع ثم قال: الحياة هي الأم، وأسوأ شيء أن تشتاق لعناق أمك والنظر في عينيها ولكنك غير قادر على التحرك من مكانك.. حينها فقدت اللغة والنطق مكتفياً بالآسى والصمت والنزيف الروحي وأنا أرى دمعات تنسل من عينيه وتعلق على شعر لحيته الكثة.. وبكل كبرياء رفع يديه ومسح وجنتيه، وقبل أن يغادرني هز رأسه وخاطبني قائلاً: "مش" عيب أن الراجل يبكي عندما يشتاق لأمه ولا يستطيع زيارتها.
وللأحزان نافلة
تُصلي في مآقي الطفل، والجدران تبحث عن دفء حكايات الصغار وبهجتهم.. ليلى عبدالملك علي، ذات السبعة عشر عاماً، وتقطن في أحد أحياء محافظة تعز، قبل أن تقول الحرب حرمتني من العيش مع أخي عمر، تكون الدموع قد بللت وجنتيها.. وعمر شقيق ليلى، هوايته الإعلام جعلته يكافح في سبيل عشقه.. إلتحق بقسم الإعلام بكلية الآداب بجامعة تعز.. طوال تواجده مع أسرته بمحافظة تعز، كان لا ينسى أن يفاجئ شقيقته ليلى نهاية كل أسبوع، بالتجهيز لرحلة بسيطة لها داخل المدينة..
تقول ليلى أنا حزينة جداً.. منذ عام ترك أخي عمر مدينة تعز وترك الدراسة بالجامعة، وسافر إلى محافظة عدن حفاظاً على حياته من القذائف التي كانت وما زالت تتساقط على المدينة في كل وقت حتى في الوقت الذي كان يذهب فيه للدراسة بالجامعة.. أنا أبكي كل يوم على بُعاد أخي عمر عني.. صحيح أحب كل أسرتي ولكن بُعد عمر عني جعلني أفكر فيه أكثر.. كيف يعيش وحيدا في مدينة لم يعرفها من قبل وبدون أسرته.. من يجهز له الطعام ومن يغسل ملابسه.. كما أني من يوم سفره وحتى الآن لا أعرف ماذا أفعل، صرت كأني في سجن وليس في مدينة..
عمر هو الأخر يعيش غارقاً بالحزن، فقد عجز أن يعود إلى تعز ويشارك أخيه الأكبر فرحة زواجه.. وبعد مرور عام لم يتحمل والد عمر لوعة الشوق وتجشم عناء ومخاطر السفر وزار عمر في عدن، أما والدته فهي حزينة على الدوام لبُعد فلذة كبدها عنها ومثلها بقية أشقاء عمر وهم محمد وبشار وبشائر..
ابن البحر عالق بالجبل
وثمة في حضرة الجبل حكاية لابن البحر.. يمني عالق في اليمن.. دائماً ما يكرر وبلهجته البدوية وهو المنحدر من بوادي محافظة أبين، والله ما عاد دريت ويش حاصل، أنا في صنعاء لي 4 سنوات وما أقدر أتحرك.. لا راتب ولا أعمال والمعاريف "اللي" كانوا يساعدوني تركوا صنعاء.. خلاص أنا بافقد عقلي.. 4سنوات ولا أعرف عن أهلي شيء ولا هم يعرفون عني شيء..
يتوقف وهو يقضم شفتيه ويجول ببصره حوله ويضيف والله حرام.. أنا ما عدت قادر أرجع لأهلي بأبين وأعيش معهم مستور الحال على الحلو والمر.. أنا بني آدم معي قلب وأشتاق لأمي وأخواني ومنطقتي.. هذا هو علي الكازمي_ ابن البحر العالق في غمرة تضاريس الجبل.. الطبيعة البدوية فرضت عليه أن يغادر المدرسة ولم يكمل بعد الثانوية ليلتحق بالقوات المسلحة.. قدره أوجب عليه بأن تكون خدمته في العاصمة صنعاء وليس له دخل غير الراتب الذي كان يتقاضاه وتوقف منذ حوالي عامين ليجد نفسه عالق بين وجع الحنين إلى أسرته وبين التشرد والنفي في الوطن..
تلك هي الحرب التي سرقت بريق الأمن في اليمن ووزعت الفاقة هوية مجانية للمواطنيين البسطاء، وحالت بين بن الفلاح ونوافذ الضوء التي كان يصلي لأجل بلوغها.. إلا أن الحرب فاحت وحشاً يتلو: ولن تتغرب عنك الأزقة ولا الشوارع ستألف دون وحشتها أحد سواك..
ابن الجبل منفي في مدينة الرماد.. معاذ الحميدي_ شاب ينحدر من منطقة جبل حبشي في محافظة تعز.. تعثر في اكمال دراسته الجامعية بكلية الهندسة بجامعة صنعاء.. يقول معاذ كنت اسمع للطرب أغنية "يا طير يا ضاوي إلى عشك_ قول لي متى أضوي أنا عشي".. رغم الصوت الشجي القادم من مشاعر الصدق ومن عميق روح الفنان أبو بكر سالم_ رحمة الله عليه، كانت حين تتنامى إلى سمعي لا تحرك فيّ شجن الحنين والشوق كما الحال مع المغتربين خارج الوطن الذين تُحرك فيهم لوعة الشوق حد البكاء.. ومنذ سنوات غدت هذه الأغنية تُبكي كثير من اليمنيين العالقون في الوطن، ولا أخجل إن قلت إني أحدهم..
ومن ضجيج المدن إلى سكينة الريف.. عالقون في انتظار أمل أن تضع الحرب أوزارها.. لكن لا فسحة من أمل توحي بانقشاع غمة البارود.. محمد حميد عبدالواسع، غادر العاصمة صنعاء نحو ريف شرعب، وهناك صار عالق لا يستطع الخروج من بلدته الريفية الصغيرة.. قبل ثلاثة أعوام لم يكن أمامه لانقاذ أسرته المكونة من 7 أفراد، لانقاذها من صعقة الموت خوفاً أو تحت انقاظ الدمار الذي تصنعه قنابل الطيران القادمة من السماء..
عبدالواسع الذي كان أحد أوائل خريجي الكلية الحربية قبل حوالي عقد ونصف من الزمن، ويحمل رتبة عليا باقتدار، صار اليوم فلاحاً ويأمل أن تزول الحرب..
ويمتد السؤال الكهل
في فصول مسارح الأيام، ويغدو كاتب مسرح الخيال فصول لمسرحية تراجيدية واقعية ضحيتيها هو وأمه المسكونة بالداء.. عادل العامري_ كاتب ومسرحي وشاعر غنائي، ظل طوال عامين بالعاصمة صنعاء يٌقاسم المدى وحشة الليل والتشرد على أرصفة الشوارع بحثاً عن ملاذ يمنحه ولو بصيص من الدفء والاستقرار.. أُصيبت والدته بوباء الكوليرا ووصل إليه النباء بعد أسابيع فأختار زاوية مظلمة في ركن أحد الأزقة وكان يكدس جسمه المتهالك فيها ويترك للدمع أن تخط درب نداء روحي يصل الأرض بالسماء.
العامري غرِق بهالات حزن ووجع وهو الغارق أصلا في قعر البؤس والفاقة.. كان يردد أمي مريضة وأنا عاجز حتى عن الاتصال بها وسماع صوتها.. توسلاته وابتهالاته الروحية فتحت له درب خير مكنه من مغادرة العاصمة صنعاء نحو العاصمة المؤقتة عدن، ومن غرق إلى أخر ويأبى أن ينكسر فمن حوله ينظر إليه بأنه موظف حكومي وكاتب مسرحي ولكن في زمن الطاعون.
يمتد من أقصى الغياب إلى عمق السكينة في كتاب الرمل.. تفر اللغة ويبقى الوجع يخط دروب من العذاب.. فاروق مقبل_ مصور وصحفي، توفي والده رحمه الله ولم يتمكن من المشاركة في مواراة جثمانة الثرى، فقد كان يحتاج على أقل تقدير 15ساعة _إذا لم تكن أكثر، سفر من العاصمة صنعاء حتى يصل محافظة تعز، ناهيك عن مخاطر السفر على امتداد الخط وهو يعيل أسرته المكونة من ال7 فيها..
ما زالت الحسرة تخنق فاروق كلما تذكر بأنه وقف عاجز حتى عن مجرد إلقاء نظرة على والده رحمه الله قبل أن يغيب عنه من دنياه..
ويتوالى نزيف الحرف شاعراً
اسمه علي هلال القحم_ شاعراً، رحمه الله، ودع أخيه بمحافظة تعز مطلع العام 2015، مغادراً نحو العاصمة صنعاء، وكان في انتظاره سجن ظالم طيلة أشهر، لم يخرج منه إلا على نبأ تبعثر جسد أخيه بقديفة وهو يبحث عن حليب لطلفته الصغيرة التي جف صدر أمها جراء الخوف القاتل الذي داهمها قادماً من جنوب الحرب المستعرة.
علي هلال_ رحمه الله، هو الأخر غادر دنيانا وحيداً نهاية الربع الأول من العام الجاري 2018، وظل جسده المرهق بفعل ويلات السجون والغاقة، ظل رهين ثلاجة مشفى بالعاصمة صنعاء لأكثر من أسبوع قبل أن يعرف شقيقه الأصغر، وبعد يومين سفر متواليين وصل صنعاء ليواري جسده الثرى..
34 ساعة من عناء السفر المعفر بوجع الخوف من مجهول موت الضوء في مقلتي الأم.. 34 ساعة موجعة وشاقة قضاها بشير المقطري مسافراً من العاصمة صنعاء حتى يصل بلدته في منطقة القبيطة، لزيارة والدته التي تنهشها علة الداء وداء اغتراب فلذة كبدها في الوطن..
على جغرافيا الموت والبارود.. الصحفي عبدالحافظ الصمدي يعصره الآسى ويلوذ بالصمت كلما باغته تفاصيل روح والدته العبقة بالحنان.. الصمدي يردد متحسراً إن السفر من صنعاء إلى بلاد الوافي في جبل حبشي بصنعاء أصبح يستغرق يومين بعد أن كان ينقضي في نصف نهار فقط قبل الحرب، وليت الأمر يتوقف عند مفردة الزمن بل تعداها إلى كون السفر أصبح كمن يقرر الذهاب إلى الجحيم..
يمنيون: عالقون في الوطن، لا تتوقف فاجعة مداها عند الحكايا التي سلف سردها، وإنما تمتد على امتداد جغرافيا أشبعتها الحرب موتاً أسوداً.. وما سلف سرده من حكايا ما هي إلا مثال لواقع يعج بالألم..
نقاط للإمتهان
نقاط التفتيش التي تنتشر على طول طرق السفر بين المحافظات والمدن، هي الأخرى لا تدع العابر يمر بسلام أو دون امتهان بدافع الحقد أو الإبتزاز أو التسلط..
مئات الانتهاكات والاعتداءات ومصادرة الحقوق ومئات حالات إبتزاز تطال المسافرين من قبل نقاط التفتيش التي نُصب كثير منها للتنكيل بالمسافرين ونهب ما بحوزتهم لتغذية سعير الحرب أو لمصادرة حريات البسطاء والقذف بهم خلف زنازين معتقلات الموت الأسود..
ايضا الفاقة وتوقف مصادر دخل ملايين اليمنيين جعلت عودة كثير للأهل غير ممكنة، ناهيك عن خوف أخرين من الموت القادم من الجو والقذائف الطائشة.. إنهم يمنيين عالقون بالوطن