في القاهرة، يأتي الليل فلا تغزوك مشاعر الحزن والأسى، أو تتقاذفك أحاسيس اللوعة والكمد، أو تصطلي في داخلك والحالات التي تحيلك إلى دوامة الكآبة، فليل القاهرة حقاً مختلف ومؤتلف.
ففي ليل القاهرة تنقلب الأشياء المقرونة بهذا الوقت من اليوم الى أضدادها، وتصير الحالات الكامنة في قاموسه على عكس ما تكون في الثبات.
أما المشاعر فتهاجر من أعشاش العادة إلى فضاءات التحول، على صعيد السلوك أو في نطاق الابداع على السواء.
ليل القاهرة ظاهرة تخرج على قوانين الزمكان، وعلى قواعد الأشياء وسوائد الحالات وعوائد الانسان، حتى لأخال كائنات السماء تتقاطر كل مساء إلى القاهرة، تغترف من ليلها ومن نِيلها قبل أن تعود إلى الأيائك النورانية مترعةً من سلسبيل ليس إليه سبيل إلاَّ من باب زويلة أو قصر الشوق أو جامع السلطان حسن. وفي حضرة السيدة زينب يعتلي بك الوجد حتى يحطّ بك على كرسي الحلول، قبل أن يعزم عليك أحدهم على حلقة ذِكْر في الست نفيسة أو رقصة تنورة في الحسين أو كوب شاي أو قرفة في الفيشاوي ثم جولة خاطفة في أروقة خان الخليلي.
وفي القاهرة ليلاً، لا تنام سوى الكوابيس والخفافيش وحشرات البق والعُثَّة وصراصير الليل وضفادع المستنقعات
ليل القاهرة ظاهرة تخرج على قوانين الزمكان، وعلى قواعد الأشياء وسوائد الحالات وعوائد الانسان، حتى لأخال كائنات السماء تتقاطر كل مساء إلى القاهرة
أما العشاق فلا ينامون في ليل القاهرة..
وأما الأطفال فلا ينامون في ليل القاهرة..
وأما المبدعون والحالمون بغدٍ أفضل منسوج من صوف الحقيقة وحرير الأمنية.. فلا ينامون في ليل القاهرة.
وقد خلق الله النهار للكدّ والعمل، والليل للنوم والكسل.. إلاَّ في القاهرة..
فقد خلق الليل لأعمالٍ شتى خارج حدود الوظيفة السقيمة.. ولأقوالٍ شتى خارج قواميس الغيبة والنميمة.. ولأفعالٍ شتى خارج تضاريس المَخدع المُخادِع.
إن ليل القاهرة لا يهبط إليك من أعالي ذُرى المُقطَّم، كما هي عادات الليل في كل زمان ومكان، يهوي مترنّحاً من رؤوس الجبال.. إنما هو يصعد اليك مُجنَّحاً كعروسٍ نيليَّة مُطرَّزة بسُندس الدهشة الحالمة، ومُكلَّلة بديباج النشوة العارمة، ومحفوفة بألف ألف فرس بيضاء، وألف ألف حديقة خضراء، وألف ألف جندول مجندل بأطنان من العود والعطور والعنبر والبخور..
فاذا بها الليلة الثانية بعد الليلة الأولى بعد الألف ليلة.. خرجت من الكتاب والكتابة.. ودخلت في الروح والصبابة!
يمن مونيتور