كنت قد طفت مع سعيد مدن وقرى البلاد، باحثا عن من تبقى من أصدقاء ما قبل المعركة، وكان يحفظ بيانات كل واحدٍ منهم، وأين اختفت علومه وكيف انضوى نحو ريفه.
كنا نشعر بالتعب ونحن نصعد الجبال، نبحث عن الرفاق المنتظرين أن تفرغ البنادق من الرصاص لينزلوا نحو السهول.
قال الجعفري وهو ينظر نحو الحزن الذي جلس أمامنا وأدار ظهره لنا وحال بيننا وبين رؤية الشاطئ: "وإن انتهت المعركة؛ هناك كثيرون لن نراهم مجددا، لقد اختفوا إلى الأبد".
طار قلبي فوراً إلى آخر صورة لزميلنا أنور الركن الذي مات بعد خروجه من سجن الحوثيين بفعل النسيان وسوء التغذية والتعذيب.
نحن الثلاثة عملنا في صحيفة واحدة بصنعاء،
قال سعيد: "تتناقص أعدادنا وتزيد الحرب".
لحظات وبدأ المطر ينزل
كان الليل قد سبقه بالهبوط
ساءلت خاطري إذا أكملت الحرب دورتها هل سنرى أنور مجدداً حيث كنا نلتقيه وفي يده مسرحية وفي قلبه مسرحا؟!.
هل سيبعث ليرينا ما كتب في أوراق ينقلها بين الحقائب سراً ويحملها معه في حياة غير مستقرة وبين غرف الأصدقاء؟!.
وحين ألقوا القبض عليه عجز عن إخبارهم أن ما في الأوراق التي يحملها مجرد خيالات وأن الشخصيات لاتوجد إلا في رأسه.
وإن قال لهم ذلك فلن يعرفوا ماذا يعني بكل كلمة كتبها
ومات وهم ينظرون نحوه جسداً نحيلاً قيل لهم إنه أنور وأجبر الحوثيون شقيقه للقول إن أنور مات وهو في أتم الصحة والعافية
ظل أنور في المعتقل عشرة أشهر ويوم خرج كان جاهزا للوداع الأخير وللموت، اجتمعت حوله أسرته تبادل معهم النظرات وعندما أرادوا إخباره عن ما حدث في غيابه لم يتمكن من سماعهم، ومات وهم ينظرون نحوه جسداً نحيلاً قيل لهم إنه أنور وأجبر الحوثيون شقيقه للقول إن أنور مات وهو في أتم الصحة والعافية .
في تلك اللحظة بدا المطر داكن اللون برائحة غريبة، و تحول الليل إلى قطع مظلمة.
بدأنا ننسحب من الساحل واكتشفنا أنه لا أحد غيري أنا وسعيد و أنور نسير بصعوبة في حي الأحمدي بعد أن نفذنا إليه بصعوبة.
ماء المطر أغلق الشوارع وحولها إلى قيعان وطفت أكياس القمامة فوقها، ولابد لنا أن نجتازها، وبدلاً من السباحة في البحر ها نحن نعوم في فشل من هندسوا البلاد وشوارعها.
حقاً الآن شعرت أن الحرب لن تنتهي، وربما لن تنتهي أبداً من مساحاتنا ومن يومياتنا
تبللنا، وانتظرنا تحت ظلال البيوت وحين تمر سيارة يكون ضوؤها قمرنا فنمضي ثم نتوقف حتى تأتي غيرها.
وقد رأينا أنه لاضير من العودة للحديث حول أصدقائنا النائمين في تلك اللحظة المتأخرة من الليل أو الذين لن يستيقظوا وإن حل السلام.
بادر موظفو الكهرباء كما علمنا لاحقا بإطفاء الأضواء عن المدينة بعد أن وصلتهم بلاغات من مواطنين قالوا إنهم تعثروا بجثة جوار عمود كهربائي تبين أنها لهارب من حرب الصومال نجا من القذائف والرصاص وقتله سلك مكشوف التصق بحديد.
أصبح الظلام أهون من الموت.
شعرت أن عدن كلها خالية وليس فيها غيرنا وأصدقاؤنا الذين تمزقوا وننفض الآن الغبار عن كل اسم فيهم ونحاول إعادة ترتيب الأحداث وترميم ذاكرتنا.
قال سعيد إنها تمطر لأننا التقينا بعد عمر طويل.
سعيد أول من قال لي كيف أبدأ الكتابة الصحفية
هو و نبيل الاسيدي Nabil Alosaidiأول من نشرا لي مادة صحفية قبل واحد وعشرين عاما في صحيفة اسمها الحرية توقفت بفعل دكتاتورية القائمين عليها.
اعترض سعيد على عدد السنوات، خشية أن نبدو عجوزين ضلا الطريق و يسيران على الساحل، فخفف العدد إلى عشرين سنة ثم اختلفنا حول السنوات التى كان قد سبقني بها إلى السلطة الرابعة
شعرت أن عدن كلها خالية وليس فيها غيرنا وأصدقاؤنا الذين تمزقوا وننفض الآن الغبار عن كل اسم فيهم ونحاول إعادة ترتيب الأحداث وترميم ذاكرتنا
.
في الصباح وأنا أطلّ من شرفة البيت الذي أسكنه لم أصدق أن المسافة التى قطعناها ليلاً كانت قصيرة إلى حد كبير.
لكنها في الظلام كانت أطول بكثير من الواقع، لم تكن المسافة طويلة؛ بل الآلام التي تحدثنا عنها.
تطول الطرق بفعل التاريخ وصراعاته وليس بالجغرافيا وقياساتها، فقبل مئات السنين كانت القوافل المحملة بالبخور والتوابل تسير هنا أسرع منا وكان طريق الحرير أيسر مِن طريق مَن تاجرَ أسلافهم بالحرير وحبوب الكتان والبخور والتوابل.
الطريق الذي اجتازته أمي للوصول إلى عدن أصبح يوما كاملا، بعد أن كان قبل خمس سنوات بضع ساعات، ولأن أحدهم أراد إعادة عجلة التاريخ وإجباري على إكمال حراسة الجدار الذي بناه جدي الأول لصالح مركز نفوذ قديم فقد تغيرت جغرافيا المسافات وطال السفر وضنك الحال.
فشلت الشمس في تجفيف الشوارع وأطلّ السكان من سطوح منازلهم وهم يراقبون مرور السيارات وسط قيعان مدينة بلا تصريف جيد
وكانت الأصوات القادمة من السطوح تتجه نحو السائقين تقدم، انتبه، حفر، سيارتك صغيرة، ارجع أحسن لك.
وحين سمعت أحرف كلمة ارجع فزّ شيءٌ داخلي، لقد بليت هذه الكلمة من كثرة استخدامها في أماكن ليست ببعيدة وكانت تتجه نحو من يحملون ذات ملامحي .
يتحول الناس إلى رجال مرور على أسطح المنازل، لقد اعتادوا القيام بذلك منذ ما قبل الحرب، فقد انضوت أجهزة الدولة واختفت المسدسات من خاصرات رجال المرور ثم اختفوا بكاملهم وحاول الأهالي تغطية الفراغ.
قبل شهر من وجودي في عدن تم الاحتفال بالشيخ عثمان بمناسبة عودة العمل إلى إشارة المرور كانت وفقا للمعلومات قد توقفت الإشارات في المدينة الساحلية عقب حرب صيف 1994
وفي تلك السنة توقفت الكثير من القلوب والأحلام، بدأ التفكير بالرد ومايحدث الان هو جزء من تلك الردود.
من شرفة المنزل يمكنك رؤية توقف التعليم ونشاط الأمية تتوزع العبارات على الجدران وجميعها كتبها من لم يكملوا تعليمهم وهم أكثر ما في مجتمع اليوم.
تذكرت قول أحدهم ممن كانوا يسعون لما يسمونه بفك الارتباط: "كنا نذهب إلى المدارس ونخرج الطلاب من فصولهم وندفع بهم إلى الشارع"، ورغم أن التلاميذ لم يكونوا ينضمون إلى التظاهرات التى استمرت لما يفوق العقد في عدن، إلا أن إخراجهم من مدارسهم أصبح ضروريا "لماذا كنا نفعل ذلك؟، لا أدري". كان هذا هو السؤال المنهي لتأنيب ضميره.
الأخطاء المريعة الموجودة على الجدران هي نتاج ذلك الخروج، هي محصلة لمن ترك الحصة الخامسة .
إنهم يكتبون كلاما بلا روح وكلمات بلا معنى ولايجيدون الرسم
في الصباح وأنا أطلّ من شرفة البيت الذي أسكنه لم أصدق أن المسافة التى قطعناها ليلاً كانت قصيرة إلى حد كبير.
لكنها في الظلام كانت أطول بكثير من الواقع، لم تكن المسافة طويلة؛ بل الآلام التي تحدثنا عنها.
تطول الطرق بفعل التاريخ وصراعاته وليس بالجغرافيا وقياساتها، فقبل مئات السنين كانت القوافل المحملة بالبخور والتوابل تسير هنا أسرع منا وكان طريق الحرير أيسر مِن طريق مَن تاجرَ أسلافهم بالحرير وحبوب الكتان والبخور والتوابل.
الطريق الذي اجتازته أمي للوصول إلى عدن أصبح يوما كاملا، بعد أن كان قبل خمس سنوات بضع ساعات، ولأن أحدهم أراد إعادة عجلة التاريخ وإجباري على إكمال حراسة الجدار الذي بناه جدي الأول لصالح مركز نفوذ قديم فقد تغيرت جغرافيا المسافات وطال السفر وضنك الحال.
فشلت الشمس في تجفيف الشوارع وأطلّ السكان من سطوح منازلهم وهم يراقبون مرور السيارات وسط قيعان مدينة بلا تصريف جيد
وكانت الأصوات القادمة من السطوح تتجه نحو السائقين تقدم، انتبه، حفر، سيارتك صغيرة، ارجع أحسن لك.
وحين سمعت أحرف كلمة ارجع فزّ شيءٌ داخلي، لقد بليت هذه الكلمة من كثرة استخدامها في أماكن ليست ببعيدة وكانت تتجه نحو من يحملون ذات ملامحي .
يتحول الناس إلى رجال مرور على أسطح المنازل، لقد اعتادوا القيام بذلك منذ ما قبل الحرب، فقد انضوت أجهزة الدولة واختفت المسدسات من خاصرات رجال المرور ثم اختفوا بكاملهم وحاول الأهالي تغطية الفراغ.
قبل شهر من وجودي في عدن تم الاحتفال بالشيخ عثمان بمناسبة عودة العمل إلى إشارة المرور كانت وفقا للمعلومات قد توقفت الإشارات في المدينة الساحلية عقب حرب صيف 1994
وفي تلك السنة توقفت الكثير من القلوب والأحلام، بدأ التفكير بالرد ومايحدث الان هو جزء من تلك الردود.
من شرفة المنزل يمكنك رؤية توقف التعليم ونشاط الأمية تتوزع العبارات على الجدران وجميعها كتبها من لم يكملوا تعليمهم وهم أكثر ما في مجتمع اليوم.
تذكرت قول أحدهم ممن كانوا يسعون لما يسمونه بفك الارتباط: "كنا نذهب إلى المدارس ونخرج الطلاب من فصولهم وندفع بهم إلى الشارع"، ورغم أن التلاميذ لم يكونوا ينضمون إلى التظاهرات التى استمرت لما يفوق العقد في عدن، إلا أن إخراجهم من مدارسهم أصبح ضروريا "لماذا كنا نفعل ذلك؟، لا أدري". كان هذا هو السؤال المنهي لتأنيب ضميره.
الأخطاء المريعة الموجودة على الجدران هي نتاج ذلك الخروج، هي محصلة لمن ترك الحصة الخامسة .
إنهم يكتبون كلاما بلا روح وكلمات بلا معنى ولايجيدون الرسم
الجدران في عدن تمتلئ بالخلافات فكل من امتلك بندقية وعلبة رنج يمكنه الكتابة على سور أرضية رقم هاتفه للتفاوض حول السعر
.
الجدران في عدن تمتلئ بالخلافات فكل من امتلك بندقية وعلبة رنج يمكنه الكتابة على سور أرضية رقم هاتفه للتفاوض حول السعر، ثم يأتي من لدية أكثر من بندقية فيدون رقمه بدلاً عن السابق.
وهكذا تتقاتل أرقام الهواتف على الجدران، وكثيرا ما كشف النهار عن جثث خلف الجدار.
تحتل مشاكل النزاع على الأراضي أولويات العاصمة المؤقتة وترى الأبنية العشوائية وهي تصعد جبل حديد وشمسان، وكأن سباق الصعود قد بدأ.
قال لي أحد القادمين من محافظة قريبة من عدن: "حاربت.. كملت الرصاص"،عندما عاد إلى منزل الإيجار سألته زوجته أين نذهب إن قال المؤجر ادفعوا أو اخرجوا.
لم يجب عليها وذهب ببندقية بلا رصاص اقتطع لنفسه مكانا في أسفل جبل حديد، وأقام جداراً وسقفاً خشبياً، وعاد إلى زوجته بالإجابة.
كثيرون تركوا المعركة وشدتهم أرضاً قالوا إنها كانت ملكا لمن حاربهم.
وقد وصلوا إلى اقتسام الأراضي الرطبة التي تتخذها الطيور المهاجرة القادمة من أفريقيا والمسافرة إلى أوروبا مهبطاً لها قبل إكمال الرحلة، وهو سلوك منذ مئات السنين، وكما قال الصحفي والسياسي فهمي السقاف تحولت إلى أرض قاسية وتم ردم جزءٍ كبيرٍ منها .
وحتى تلك الأرض المخصصة لإنتاج الملح تم سلب أجزاء منها وتم إزالة واحدة من أهم مميزات المدينة الساحلية.
وتلك الأحواض التي شاهدها نصف مليون متفرج وأمامها رجل يتلعثم في الحديث عن إنتاج الملح لمذيع مباشر تم الاقتطاع منها مؤخرا وثمة حربٌ تقام هناك من وقت لآخر.
كثيرون الآن هذه هي معركتهم وقضيتهم.
وهم أكثر من يستميت في تمزيق صورة البلاد وخرائطها
الجدران في عدن تمتلئ بالخلافات فكل من امتلك بندقية وعلبة رنج يمكنه الكتابة على سور أرضية رقم هاتفه للتفاوض حول السعر، ثم يأتي من لدية أكثر من بندقية فيدون رقمه بدلاً عن السابق.
وهكذا تتقاتل أرقام الهواتف على الجدران، وكثيرا ما كشف النهار عن جثث خلف الجدار.
تحتل مشاكل النزاع على الأراضي أولويات العاصمة المؤقتة وترى الأبنية العشوائية وهي تصعد جبل حديد وشمسان، وكأن سباق الصعود قد بدأ.
قال لي أحد القادمين من محافظة قريبة من عدن: "حاربت.. كملت الرصاص"،عندما عاد إلى منزل الإيجار سألته زوجته أين نذهب إن قال المؤجر ادفعوا أو اخرجوا.
لم يجب عليها وذهب ببندقية بلا رصاص اقتطع لنفسه مكانا في أسفل جبل حديد، وأقام جداراً وسقفاً خشبياً، وعاد إلى زوجته بالإجابة.
كثيرون تركوا المعركة وشدتهم أرضاً قالوا إنها كانت ملكا لمن حاربهم.
وقد وصلوا إلى اقتسام الأراضي الرطبة التي تتخذها الطيور المهاجرة القادمة من أفريقيا والمسافرة إلى أوروبا مهبطاً لها قبل إكمال الرحلة، وهو سلوك منذ مئات السنين، وكما قال الصحفي والسياسي فهمي السقاف تحولت إلى أرض قاسية وتم ردم جزءٍ كبيرٍ منها .
وحتى تلك الأرض المخصصة لإنتاج الملح تم سلب أجزاء منها وتم إزالة واحدة من أهم مميزات المدينة الساحلية.
وتلك الأحواض التي شاهدها نصف مليون متفرج وأمامها رجل يتلعثم في الحديث عن إنتاج الملح لمذيع مباشر تم الاقتطاع منها مؤخرا وثمة حربٌ تقام هناك من وقت لآخر.
كثيرون الآن هذه هي معركتهم وقضيتهم.
وهم أكثر من يستميت في تمزيق صورة البلاد وخرائطها