شهدت الذكرى السابعة والعشرون للوحدة اليمنية -كما هي العادة- نفس الاحتفالات الرسمية، في يوم الثاني والعشرين من مايو/أيار 2017، التي سبقتها في يوم الحادي والعشرين مظاهرات جنوبية تطالب بفكِّ الارتباط والانفصال عن الشمال؛ حيث يصادف الحادي والعشرون من شهر مايو/أيار الذكرى الثالثة والعشرين لخطاب علي سالم البيض أثناء حرب صيف 1994، والذي أعلن فيه فكَّ ارتباطه عن الشمال بعد أربع سنوات فقط من الوحدة الطوعية بين الشطرين في 22 مايو/أيار 1990.
هذا العام، تجاوزت المسألة مجرد ذكرى احتفالية رسمية أو مسيرة احتجاجية لتصبح تصعيدًا جديدًا غير مسبوق في القضية الجنوبية؛ إذ شهدت مظاهرة جنوبية حاشدة تأييدًا للمجلس الانتقالي الجنوبي، الذي أعلنه عيدروس الزبيدي في الحادي عشر من شهر مايو/أيار 2017؛ فردَّ عليها الرئيس، عبد ربه منصور هادي، بخطاب يؤكد فيه أنه لن يسمح بتقسيم اليمن لدويلات.
من يحكم الجنوب الآن؟
ثلاث فصائل مسلحة كبرى تتحكم بمدينة عدن، أكبرها وأقواها قوات الحزام الأمني التي تتحكم بمداخل المدينة البرية والبحرية والجوية، ومعظمها من أبناء قبيلة يافع الجنوبية ويغلب عليهم الانتماء السلفي، ويقودها القيادي السلفي، هاني بن بريك، ويستمد شرعيته من مشاركة السلفيين الفاعلة في معركة الجنوبيين ضد الحوثيين في عدن. أما القوة الثانية، فهي قوات أمن مدينة عدن تحت قيادة مدير أمن المدينة، شلال شايع، وحليفه عيدروس الزبيدي المحافظ السابق للمدينة، ومعظم هذه القوات من محافظة الضالع، ويستمدان شرعيتهما من التاريخ النضالي لكلٍّ من شايع وعيدروس في معارضتهما لسُلطة حكومة صنعاء بعد حرب 1994 منذ نشأة الحراك عام 2003، ومن ثم مقاومتهما المسلحة ضد الحوثيين في مدينتهما، الضالع.
كلتا هاتين القوتين مدعومتان من الإمارات العربية المتحدة التي تتواجد عسكريًّا في الجنوب لكن درجة قرب كل قوة متفاوتة؛ حيث يحظى الحزام الأمني بالدعم الأكبر. أخيرًا، تأتي قوات الحماية الرئاسية الموالية للرئيس هادي بقيادة ابنه، ناصر، ومعظمها من محافظة الرئيس، وهي أبين المحاذية لمدينة عدن، وبالطبع هادي يستمد شرعيته من المجتمع الدولي وكونه الذي منح الغطاء الشرعي للتدخل العسكري للتحالف الذي تقوده السعودية.
إعلان المجلس السياسي الجنوبي يعد أكبر تحدٍّ تواجهه سلطة الرئيس هادي في المناطق الواقعة افتراضًا تحت سيطرة الحكومة الشرعية، وهو بمثابة تصدع حقيقي في وضع التحالف الذي تقوده السعودية سواء داخليًّا أو خارجيًّا.
كان تشكيل هذا المجلس نتيجة مباشرة لقرار هادي بإقالة كلٍّ من عيدروس الزبيدي من منصبه كمحافظ لمدينة عدن وهاني بن بريك من منصبه الرسمي كوزير للدولة وإحالته للتحقيق، في 27 أبريل/نيسان 2017، وهو تاريخ شديد الرمزية بالجنوب؛ حيث يصادف ذكرى خطاب الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، الشهير قبل حرب 1994 والتي قال فيها جملته الشهيرة: "الوحدة أو الموت".
هذا القرار كان متوقعًا منذ الاشتباك المسلح بين قوات الحماية الرئاسية وقوات الحزام الأمني، في 12 فبراير/شباط 2017، استمرت هذه الاشتباكات ثلاثة أيام إثر رفض قائد حماية المطار تسليم قيادة المطار لقوات الحماية الرئاسية بعد قرار رئاسي بإقالته لأنه منع نزول طائرة الرئيس على مهبط المطار.
رغم أن الاشتباكات لم تنخرط فيها القوات الأمنية الموالية للزبيدي ومدير أمن عدن، شلال شايع، لكن من المعروف أن كليهما وقف بجانب هاني بن بريك ضد الرئيس هادي وتغيَّبا عن الاجتماع الطارئ الذي دعا له هادي كل القيادات الأمنية بعد الاشتباكات المسلحة التي تدخلت فيها طائرات الأباتشي الإماراتية لضرب القوات الموالية لهادي. وانتهت الاشتباكات بتدخل سعودي، وتسوية سعودية-إماراتية لاحتواء الموقف وانسحاب قوات الحماية الرئاسية من محيط المطار لتظل قوات موالية للإمارات مع انتشار قوة عسكرية سودانية صغيرة موالية للسعودية، هذا وقد ظلت ذات القيادة للمطار.
تلا هذه الاشتباكات زيارة للرئيس هادي لدولة الإمارات استُقبل فيها بفتور واضح وبدون أي ترحيب إماراتي، مما كشف حجم حالة التوتر والخلاف العميق بين الطرفين والذي بدأ بالظهور منذ إقالة الرئيس هادي لرئيس الوزراء ونائبه، خالد بحاح، في الخامس من أبريل/نيسان عام 2016(1).
ظل الحضور القوي لحزب الإصلاح الإخواني حول الرئيس هادي هو أحد الأسباب الرئيسية لتوتر علاقاته مع الإمارات، إضافة لسعي الإمارات المتواصل لخلق قوة موازية خارج إطار الحكومة تتبعها بشكل مباشر وتدين لها بالوجود وبالتالي تكون أكثر تبعية، في وسط فراغ سياسي كبير خلَّفه غياب هادي وحكومته عن مدينة عدن منذ هزيمة الحوثيين وانسحابهم من المدينة في يوليو/تموز 2015.
كلتا هاتين القوتين مدعومتان من الإمارات العربية المتحدة التي تتواجد عسكريًّا في الجنوب لكن درجة قرب كل قوة متفاوتة؛ حيث يحظى الحزام الأمني بالدعم الأكبر. أخيرًا، تأتي قوات الحماية الرئاسية الموالية للرئيس هادي بقيادة ابنه، ناصر، ومعظمها من محافظة الرئيس، وهي أبين المحاذية لمدينة عدن، وبالطبع هادي يستمد شرعيته من المجتمع الدولي وكونه الذي منح الغطاء الشرعي للتدخل العسكري للتحالف الذي تقوده السعودية.
إعلان المجلس السياسي الجنوبي يعد أكبر تحدٍّ تواجهه سلطة الرئيس هادي في المناطق الواقعة افتراضًا تحت سيطرة الحكومة الشرعية، وهو بمثابة تصدع حقيقي في وضع التحالف الذي تقوده السعودية سواء داخليًّا أو خارجيًّا.
كان تشكيل هذا المجلس نتيجة مباشرة لقرار هادي بإقالة كلٍّ من عيدروس الزبيدي من منصبه كمحافظ لمدينة عدن وهاني بن بريك من منصبه الرسمي كوزير للدولة وإحالته للتحقيق، في 27 أبريل/نيسان 2017، وهو تاريخ شديد الرمزية بالجنوب؛ حيث يصادف ذكرى خطاب الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، الشهير قبل حرب 1994 والتي قال فيها جملته الشهيرة: "الوحدة أو الموت".
هذا القرار كان متوقعًا منذ الاشتباك المسلح بين قوات الحماية الرئاسية وقوات الحزام الأمني، في 12 فبراير/شباط 2017، استمرت هذه الاشتباكات ثلاثة أيام إثر رفض قائد حماية المطار تسليم قيادة المطار لقوات الحماية الرئاسية بعد قرار رئاسي بإقالته لأنه منع نزول طائرة الرئيس على مهبط المطار.
رغم أن الاشتباكات لم تنخرط فيها القوات الأمنية الموالية للزبيدي ومدير أمن عدن، شلال شايع، لكن من المعروف أن كليهما وقف بجانب هاني بن بريك ضد الرئيس هادي وتغيَّبا عن الاجتماع الطارئ الذي دعا له هادي كل القيادات الأمنية بعد الاشتباكات المسلحة التي تدخلت فيها طائرات الأباتشي الإماراتية لضرب القوات الموالية لهادي. وانتهت الاشتباكات بتدخل سعودي، وتسوية سعودية-إماراتية لاحتواء الموقف وانسحاب قوات الحماية الرئاسية من محيط المطار لتظل قوات موالية للإمارات مع انتشار قوة عسكرية سودانية صغيرة موالية للسعودية، هذا وقد ظلت ذات القيادة للمطار.
تلا هذه الاشتباكات زيارة للرئيس هادي لدولة الإمارات استُقبل فيها بفتور واضح وبدون أي ترحيب إماراتي، مما كشف حجم حالة التوتر والخلاف العميق بين الطرفين والذي بدأ بالظهور منذ إقالة الرئيس هادي لرئيس الوزراء ونائبه، خالد بحاح، في الخامس من أبريل/نيسان عام 2016(1).
ظل الحضور القوي لحزب الإصلاح الإخواني حول الرئيس هادي هو أحد الأسباب الرئيسية لتوتر علاقاته مع الإمارات، إضافة لسعي الإمارات المتواصل لخلق قوة موازية خارج إطار الحكومة تتبعها بشكل مباشر وتدين لها بالوجود وبالتالي تكون أكثر تبعية، في وسط فراغ سياسي كبير خلَّفه غياب هادي وحكومته عن مدينة عدن منذ هزيمة الحوثيين وانسحابهم من المدينة في يوليو/تموز 2015.
المطالبة بتشكيل مكون سياسي يمثِّل الجنوب ليس أمرًا جديدًا في الحراك الجنوبي، وهذا يتضح من مؤتمر القاهرة لأبناء الجنوب المنعقد في أكتوبر/تشرين الأول 2011، والذي ضمَّ مجموعة قيادات ومكونات سياسية جنوبية لبلورة مطالب الجنوبيين أثناء الانتفاضة الشعبية في 2011. كان أبرز مخرجات المؤتمر دعوته لفيدرالية من إقليمين لمدة خمس سنوات يعقبها استفتاء شعبي لتقرير حق المصير للجنوبيين، وكذلك طالب المؤتمر بتشكيل مجلس سياسي ينسق بين المكونات الجنوبية المختلفة ويمثِّل الجنوب بالخارج ويكون نواة لأية سلطة سياسية بالجنوب، كما أوضح بيان المؤتمر طبيعة المعايير والنسب السكانية التي تمثل الجنوبيين في هيئاته التمثيلية والسياسية المفترض تشكيلها(2).
باستثناء تحوُّل مؤتمر القاهرة لأبرز مرجعية سياسية اتفقت عليها القوى السياسية الجنوبية المختلفة فيما عدا تلك المطالِبة "بالاستقلال" الفوري، فإنه لم ينجح في تطبيق تصوراته بسبب الانقسامات التي حلَّت به؛ حيث نجح الرئيس هادي في استقطاب بعض قياداته وإشراكهم في مؤتمر الحوار الوطني الذي انطلق في مارس/آذار 2014.
كان عيدروس الزبيدي تحدث في وقت سابق في سبتمبر/أيلول 2016 عن ضرورة تشكيل كيان سياسي يمثِّل الجنوبيين(3)، كل هذا يقول: إن الفكرة كانت حاضرة؛ لأنها تعبِّر عن مطلب سياسي جنوبي بسبب احتياجه لجهة تمثله في التفاوض، على سبيل المثال كانت الأمم المتحدة وغيرها من وسطاء يجدون صعوبة في التواصل مع الحراك الجنوبي بسبب تعدد تياراته وتصارع قياداته.
هذه الفكرة المطروحة على الساحة الجنوبية والاستحقاق السياسي الذي استدعته مطالب الشارع الجنوبي لم تكن وليدة اللحظة، لكن طريقة تطبيقها كانت وليدة اللحظة وغلب عليها الطابع الانفعالي بغلاف فيه قدر من الشعبوية.
مباشرة بعد قرار هادي بإقالة محافظ عدن تمت الدعوة لحشد جماهيري يفوِّض عيدروس بتشكيل المجلس الانتقالي، بالطبع لم يكن الحشد كبيرًا فعلًا؛ لأن الدعوة إليه تمَّت على عَجَل، فلم يحضر سوى جمهور تيار واحد لفصيل سياسي وحيد بالجنوب، وغلب عليه البُعد المناطقي لأبناء الضالع، وكان هذا اللجوء للشارع تجاوزًا لكل أدوات العمل السياسي المتاحة مثل عقد مؤتمر أو اجتماع للتنسيق مع بقية القيادات والتيارات الجنوبية، إضافة لكلمة تفويض بما تحمله من معاني التسليم الجماهيري لقيادة مطلقة.
طبيعة الاحتقان والغضب في الشارع الجنوبي تتغذَّى من مطالب عالقة لزمن طويل، فاقمتها حالة الاستقطاب السياسي والمناطقي الحاد الذي يسهِّل من إمكانية الحشد، مما يفسر حدَّة وعدائية لغة ما يُسمَّى بإعلان عدن التاريخي بعكس بيان مؤتمر القاهرة.
شدَّد بيان مؤتمر القاهرة على مطالب الجنوبيين وحقهوقهم المهضومة وقدَّم خطة عمل في لغة سياسية هادئة، حرصت على ذكر المشاعر الأخوية مع اليمنيين بالشمال، لكن إعلان عدن التاريخي لم يقدِّم شيئًا فعليًّا سوى التفويض لعيدروس بتشكيل مجلس سياسي بخطاب سياسي عدائي؛ ففي البداية، أشار لدلالة تاريخ قرار هادي المتصادف مع ذكرى إعلان الحرب من قبل الرئيس السابق صالح، في 1994، واعتبر البيان اختيار ذلك التاريخ لقرار الإقالة كاشفًا عن طبيعة عدوانية شركاء حرب 1994، في إشارة لدور الرئيس هادي في تلك الحرب. كما وصف البيان المهيمنين على السلطة بقوى الإرهاب السياسي التي أصدرت قرارات بحق أبرز قوى المقاومة؛ لأن القرار السياسي مختطَف من قبل جماعة الإخوان المسلمين؛ مما يعني أن مفردة الإرهاب السياسي مقصود بها جماعة الإخوان المسلمين.
لم يكن مفاجئًا بعد هذا البيان العدائي أن يتعرض مقر حزب الإصلاح في عدن للحرق، وهو استعداء غير مفهوم لفصيل سياسي موجود بالجنوب وشارك في مقاومة الحوثيين مثل فصيل القيادي نايف البكري الذي كان محافظ عدن سابقًا. هذا، ولم يكن حزب الإصلاح بالجنوب معارضًا بالكامل للحراك الجنوبي، بل بعض قيادات الإصلاح الجنوبية مثل محسن باصرة كانت ضمن الحراك منذ البداية.
هذا الطابع الاستقطابي للبيان يجعله يبدو كردِّ فعل على قرار هادي أكثر من كونه تعبيرًا عن مطلب للشارع الجنوبي، ويكشف هذا أمران: سرعة تشكيل المجلس خلال أسبوع وبشكل يخلو من التنسيق مع الكثيرين من القيادات الجنوبية؛ حيث تفاجَأَ بعضهم بالخطوة، بينما تذبذبت مواقف البعض بين الرفض والقبول مثل محافظ حضرموت(4)، وآخرين رفضوا المجلس مثل القيادي ناصر النوبة(5)، بينما أعلن حيدر العطاس عن قبوله المتحفِّظ بالمجلس كنواة أولى لتشكيل كيان سياسي يمثِّل الجنوبيين(6).
كما أن خطوة المجلس الانتقالي تعاملت بقدر كبير من الانتهازية أو الازدواجية مع حكومة هادي؛ حيث يرفض المجلس هذه السُّلطة ويستنكر حقها في اتخاذ قرار بعزل الزبيدي مشكِّكًا في شرعيتها بهذه الحالة، بينما يتقبل شرعيتها في قرار تعيين الزبيدي بالمقام الأول، ويوجد بين أعضاء المجلس محافظون وقيادات سياسية لديها مناصب ضمن الحكومة الشرعية التي يرفضون شرعيتها ويصفونها بشريكة حرب 1994 ضد الجنوب. كذلك يعطي للمجلس صلاحيات تتعارض مع سلطات الحكومة الشرعية مثل تقديم الخدمات وإدارة الجنوب.
انقسامات الجنوب
يتجاهل المجلس واقع الجنوب المنقسم، ويقع في إعلانه في تناقضات مثل ترحيبه بالبيان الذي أصدره مؤتمر حضرموت الجامع، في 22 أبريل/نيسان، أي قبل خمسة أيام من إقالة عيدروس. التناقض يكمن في حقيقة أن بيان حضرموت يتناقض كليًّا مع طبيعة إعلان عدن التاريخي والمجلس الانتقالي الذي تمخض عنه واللذين يسيران في اتجاه خط ما يُعرف باستعادة الدولة الجنوبية التي كانت موجودة قبل الوحدة عام 1990.
إذا كان بيان حضرموت يتحدث عن حضرموت كوحدة سياسية مستقلة عن الجنوب ضمن الفيدرالية التي يتعامل معها كخيار سياسي، فإن إعلان عدن يتجاوز الفيدرالية ويتحدث عن الانفصال وفكِّ الارتباط عن الشمال. وهذا البيان الحضرمي لم يكن وليد اللحظة بل سبقته وثيقة "حضرموت: الرؤية والمسار" في عام 2011 والتي تلت مؤتمر القاهرة لأبناء الجنوب(7)، وهي وثيقة تؤكد أيضًا على حضرموت كوحدة سياسية مستقلة وقد تكون دولة منفصلة.
ليست حضرموت ذات التطلعات المستقلة عن الجنوب هي فقط العقبة الوحيدة في مواجهة المجلس بل أيضًا وجود تباينات جنوبية متعددة، فالحراك الجنوبي ينقسم سياسيًّا إلى عدة تيارات: تيار التحرير والاستقلال بزعامات متعددة مثل علي سالم البيض وعيدروس الزبيدي وصلاح شنفرة وناصر الخبجي، وتيار الفيدرالية وتقرير المصير ويمثله حيدر العطاس ومحمد علي أحمد وعلى ناصر محمد، وهو التيار الذي عبَّر عنه مؤتمر القاهرة وهو أيضًا يقترب من تبني خيار الحزب الاشتراكي من الفيدرالية من إقليمين دون أن يعلن الحزب الاشتراكي تبنيه خيار الاستفتاء الشعبي لتقرير المصير. كما يوجد تيار الرابطة الذي يتحدث عن دولة الجنوب العربي وليس اليمني وهو تيار يمثِّل سلاطين ومشايخ الجنوب أثناء فترة الاحتلال البريطاني وأبرزهم عبد الرحمن الجفري وأحمد عمر بن فريد؛ حيث كان الجنوب العربي مشروعًا بريطانيًّا في الجنوب استمر لمدة سبع سنوات ولم تكن حضرموت جزءًا منه، وتاريخيًّا، اشتعلت ثورة الاستقلال في الجنوب ضد هذا الكيان متبنية خيار الهوية اليمنية وهدف الوحدة مع الشمال. إضافة لوجود تيار من حزب الإصلاح والرئيس هادي الذي يدعو لفيدرالية من عدة أقاليم.
كان إعلان عدن التاريخي يعبِّر عن فصيل واحد من تيار الحرية والاستقلال، وهو -مناطقيًّا- يمثِّل بشكل كبير الضالع، ويافع بدرجة أقل، ويتبع سياسيًّا أحد قيادات الحراك وهو الزبيدي، إضافة إلى أن هذا الاعلان تبنَّى خطاب تيار الرابطة المنادي بالجنوب العربي، وهو خيار ينقلب على ثورة الاستقلال في الجنوب ويحشر القضية الجنوبية في مربع الهوية الضيق مستعديًا الشمال بدرجة كبيرة.
يقظة الثارات
إعلان عدن التاريخي في لغته الاستقطابية كان يعبِّر عن حقيقة يقظة الثارات التاريخية بالجنوب؛ ففي إشارة الإعلان إلى حرب 1994 بهذا الشكل وفي هذا السياق استفزاز لطبيعة الثارات الجنوبية-الجنوبية؛ حيث كان تاريخيًّا يتنازع السلطة بالجنوب مركزا قوة، محافظة أبين المحاذية لعدن وتقع شرقها ومحافظة الضالع في أقصى شمال الجنوب وأصبحت معقل الحراك الجنوبي فيما بعد.
حرب 1994 بين حكومة صنعاء والحزب الاشتراكي بالجنوب، لا يمكن وصفها بحرب بين الانفصال والوحدة؛ لأنها كانت تعبِّر عن صراع واضح على السلطة بين منظومتين استبداديتين، وسعت حكومة صنعاء بشكل دائم إلى التخلص من شريكها الجنوبي، كما لا يمكن وصفها بحرب بين الشمال والجنوب في وقت دخلت قوات جنوبية مشاركة في القتال بصف حكومة صنعاء إلى مدينة عدن يوم 7 يوليو/تموز 1994.
في الواقع، كانت حرب 1994 تعبِّر عن مأزق الجنوب وانقسامه الذي استثمره الرئيس السابق علي صالح؛ فالقوات الجنوبية المشاركة بقيادة عبد ربه منصور هادي هي القوات الجنوبية التي انهزمت في الحرب الأهلية بالجنوب عام 1986، وهي معظمها قوات من محافظتي أبين وشبوه، طُردت إثر الحرب وتعرضت لعملية انتقام واسعة من الطرف المنتصر مما اضطر الكثير من القيادات والآلاف من عناصرها للهرب لليمن الشمالي.
كذلك كان أبرز شركاء صالح في حرب 94، حزب الإصلاح وغيره من مكونات إسلامية وجهادية ضمن سياق ممتد للحرب الإسلامية ضد الشيوعية وكان ضمنها إصلاحيون من الجنوب تعرضوا لاضطهاد شديد أثناء فترة الحزب.
تلا حرب 1994 عملية تهميش واسعة للجنوب وأحيل معظم كادره الوظيفي المدني والعسكري للتقاعد المبكر، وبدأ الحراك بتحرك العسكريين المتقاعدين منذ عام 1997 حتى تشكَّلت هيئة العسكريين المتقاعدين بالجنوب عام 2003، ثم أصبح الحراك منذ عام 2006 معبِّرًا عن حالة غليان شعبي وظاهرة مستمرة في الشارع الجنوبي الذي كان يشهد دومًا مظاهرات وفعاليات احتجاجية ضد ممارسات سلطة صنعاء.
من الواضح أن يكون الطرف المهزوم في حرب 1994 من محافظة الضالع التي كان ينتمي لها معظم جيش اليمن الجنوبي السابق وبدرجة أقل محافظة لحج. لذا، فالإشارة لهادي بصفته جزءًا من سُلطة حرب 1994 هو إيقاظ لثارات الجنوب وصراعاته المناطقية والتي تتجسد ضمن توزيع القوى السياسية المسلحة حاليًّا بالجنوب.
مستقبل الجنوب في ظل المجلس
تتحكم بمستقبل هذا المجلس طبيعة التفاعلات الإقليمية تجاه اليمن وانعكاسها على الشأن الداخلي. خطاب رئيس المجلس، عيدروس الزبيدي، بثته القنوات الإماراتية بثًّا حيًّا مباشرًا، ولا يمكن تجاهل تأثيرات النفوذ الإماراتي في الجنوب، وفي هذه الخطوة بالذات خاصة في سياق الخصومة والتصعيد ضد الإخوان. في المقابل، تجاهلت القنوات السعودية المجلس وسرعان ما استدعت السعودية عيدروس الزبيدي وهاني بن بريك لزيارتها، وبعد أسبوع في السعودية طار كلاهما للإمارات التي يقيمان فيها حتى الآن. بينما المحافظ الجديد لمدينة عدن، عبد العزيز المفلحي، ألقى خطابه بعدن وسرعان ما سافر للسعودية غير قادر على تحمل مهامه الجديدة؛ لأن معظم القوة الأمنية في يد خصومه من الحزام الأمني، وشلال شايع مدير أمن المحافظة.
في الغالب، سوف ينتهي الأمر بتسوية بين طرفي التحالف السعودية والإمارات؛ حيث تميل السعودية في سياستها لدعم الحكومة الشرعية بدون اتخاذ أية خطوات راديكالية في اليمن، لذا، تبدو شديدة الحساسية تجاه التيارات الانفصالية في الجنوب، بينما تأخذ الإمارات توجهات راديكالية في الجنوب وتدخل في دائرة الاستقطابات في بيئة شديدة الانقسام، وطبيعة أولوياتها مختلفة عن السعودية حيث ترى هادي والإخوان خصمها الأول بينما تؤجل السعودية كل هذه الأمور حتى نهاية الحرب في الشمال ضد الحوثيين.
عند وضع تصورات مستقبلية للمجلس يجب الأخذ بعين الاعتبار عدة أمور في الساحة الجنوبية إضافة لحالة الانقسام الإقليمي، وهما:
أولًا: يعاني الجنوب من انقسامات مناطقية وسياسية عديدة، وللحراك الجنوبي تحديدًا قيادات متصارعة، ولعل مشهد منصة ما يُسمى بالمليونية، في 21 مايو/أيار 2017، لدعم تشكيل المجلس صورة معبِّرة عن طبيعة هذا الصراع على مستوى القيادات؛ حيث شهد تلاسنًا ومشادة بالأيدي بين القياديين الجنوبيين، شلال شايع وناصر الخبجي، وأتباعهما من جهة وصلاح الشنفرة وأتباعه من جهة أخرى(8)، هذا الصراع هو على مستوى فصيل سياسي ومناطقي واحد والأمر يزداد تعقيدًا عند تعدد الفصائل.
الأمر الثاني هو أن هذا الانقسام صار مقرونًا بالسلاح مؤخرًا، وهو سلاح ثقيل تلقته الفصائل الجنوبية المختلفة من التحالف أثناء قتالها للحوثي، لذا لا يمكن إقصاء فصيل جنوبي دون توقع انفجار مسلح.
أخيرًا، لا يمكن تجاهل حقيقة تقلب الولاءات؛، فهاني بن بريك الذي صار يمثِّل الجنوب في المجلس الانتقالي هو ذاته الذي كان يهاجم الحراك الجنوبي قبل ذلك(9)، وشلال شايع وعيدروس الزبيدي ومعهما علي سالم البيض وغيرهم كانوا يتلقون حتى وقت قريب تمويلًا من إيران(10)، إضافة لقيادات الحراك الجنوبي التي تذبذبت في البداية عندما اجتاحت القوات الحوثية والحرس الجمهوري الجنوب ولم تحسم أمرها بالانحياز للمقاومة إلا متأخرًا. هكذا، تتقلب المواقف داخل أوساط قيادات الحراك دون أي انضباط، ويفاقم ذلك الاعتماد على البُعد الجماهيري، لأنه لحظي لا يحمل ذاكرة حقيقية.
لم تنته معركة التحالف في اليمن بالجزء الشمالي حتى دخل في معركة توزيع غنائم بالجنوب، لذا، من المرجح أن تصل السعودية والإمارات لتسوية في الغالب سوف تميِّع دور المجلس بحيث لا يتصادم تمامًا مع الحكومة الشرعية لكن سيظل ورقة ضغط في وجهها. هذا، وقد بدأ المجلس بالفعل زيارات إقليمية ودولية لشرعنة وجوده، لكن هذا لن يستطيع تقويض شرعية هادي بقدر ما سوف يؤدي لمزيد من الاضطراب الداخلي بالجنوب وتصاعد حدة الاستقطاب. ورغم أن الإمارات والسعودية قد تحققان نجاحًا في كسب بعض الولاءات المتقلبة بين الصفين، فإن هذا لا يعني نجاح أي منهما في فرض سيطرته أو سيطرة أي من حلفائه بالجنوب؛ حيث تظل القضية الحقيقية للمواطن الجنوبي هي توفير الخدمات المعدومة والشعور بالأمن وتحقيق الحد الأدنى من الاستقرار السياسي الذي لن يتم دون صيغة سياسية تشمل الجميع وتبتعد عن حدة الاستقطاب.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات
* باحثة في الشؤون السياسية اليمنية