هذه الرواية هي تفاصيل خيانة وألم عرفها اليمني كثيرا منذ ما قبل سقوط صنعاء بيد الحوثيين، عرفها في صعدة وعمران، وعلى تخوم صنعاء، عرفها في قرية القابل ومنطقة شملان وفي الجهة الغربية للعاصمة، وعرفها اليمني أيضا في تعز وعدن والضالع وشبوة وفي كل البقاع.
لم أعد أعرف كيف أحدثك ومن أين أبدأ، أنت تسمع الآن أصوات الطائرات التي تحلق فوقنا الآن في هذه الرسالة المختصرة عبر الواتس آب والتي جاءت في ثلاث دقائق وثمان ثوان، كانت الهجمة التي نفذتها ضدنا مليشيا الحوثي قوية جدا إلى الحد الذي أربكتنا، كنا في وادي جُبارة، وبداخل هذا الوادي ما يعادل خمسة آلاف جندي منتمين للواء الفتح التابع للجيش الوطني، بعد أن تمكنا من الوصول إلى الجبهة استطاعت مليشيا الحوثي قطع الطريق علينا من المؤخرة، كنا ـ أي مجموعتنا ـ نتوسط قلب الجيش وميمنته وميسرته، تم حصارنا من قبل الحوثيين لستة أيام، منذ خاطبني هذا الجندي المحاصر وحتى الآن وأنا أكتب هذا المقال لا يزال هذا الجندي محاصرا.
هذه الرواية هي تفاصيل خيانة وألم عرفها اليمني كثيرا منذ ما قبل سقوط صنعاء بيد الحوثيين
خلال اليومين الأولين حاولت طائرات التحالف فك الحصار عنا من خلال الهجوم الأرضي والجوي، لكن هذا التدخل لم يحرز أي نتيجة، فمليشيا الحوثي استماتت في الدفاع عن هذا الحصار المضروب علينا بكل شراسة.. لم يكن لدينا أي مدد، حتى الطعام لم يكن لدينا منه الكثير، فأكلنا كل الخبز اليابس الذي كان بحوزتنا، كان هذا الحصار الغذائي قد استمر لثلاثة أيام، في اليوم الرابع وصلتنا تعليمات بالانسحاب، كان هذا الانسحاب مجازفة بالنسبة لعدد كبير كهذا، لم يكن يخلو من مخاطرة، بعض هؤلاء الجنود سلموا التباب التي كانت تحت سيطرتهم وسلموا أنفسهم، وبعضهم قاوم وقُتل، كان صديقي عبد الرحمن معنا في تبة الطوارق، وسط الهجوم والحصار الحوثي، تقسمنا إلى مجموعات كثيرة، لم نكن نعرف ماذا نفعل أو كيف نفعل، تشردنا، سقط البعض من العطش والجوع، واستسلم آخرون، وقُتل البعض، حتى الجرحى الذين أصيبوا بجوارنا تركناهم كما هم، لم نستطع فعل شيء، صديقي الذي أحدثك كان في الطوارق، ثلثهم هناك قتلوا، وثلثهم استطاع الخروج إلى تبة الموت، هذه التبة أيضا محاصرة من قبل الحوثيين وأنا أحدثك منها الآن، سألت أصدقائي العائدين إلى هذه التبة والذين تمكنوا من الخروج من وادي جُبارة واللحاق بنا، كنت أسأل عن مصير صديقي عبد الرحمن، أحدهم قال إنه قُتل أمام عيني، لم أصدق في البداية حاولت التأكد أكثر، حتى لا أخبر أهله بهذا المصير المحزن، سألت أصدقاء آخرين ممن كان عبد الرحمن برفقتهم، لكنهم أكدوا أنه مات وحيدا وسط السائلة وهو يحاول الوصول إلينا نحن المحاصرين أيضا في هذه التبة "تبة الموت".
لست أعرف إذا ما كانت هذه التبة تسمى هكذا أو أن هذا الجندي أطلق عليها هذا الاسم الذي ينبئ بمصير منتظر.
حتى الجثث التي سقطت لم يستطع أحد أخذها أو فعل أي شيء آخر، كنا نراها فقط، لقد رأيت بعيني مئات الجثث، لقد قال الجندي الذي يحدثني إنه رأى قرابة ستمائة جثة، لكننا لا نستطيع التأكد من هذا الرقم أو نفيه، فحسابات جندي وسط محنة ومعركة كهذه قد لا تكون دقيقة وكافية، وحتى الآن وبعد ستة أيام لا يزال الطيران يحلق لكنه لم يستطع فك الحصار أو حتى أخذ جثة واحدة لهؤلاء المقاتلين الذين سقطوا بطريقة مؤسفة على الحدود السعودية الجنوبية.