استجمع كل قواه وهبط درج كلية إعلام صنعاء وحين اقترب منا قلت لعيبان، جاء من أجلنا . مر من جوارنا كمن يرانا أول مرة، ولم يلتفت نحونا او تجاه أولئك الذين يحيطون بنا بأسلحتهم . قبل قليل كان في كرسيه بالأعلى يتحدث عن حق الناس في الدفاع عن حريتهم، لكنه حين مرّ مسرعا خرج من بين الناس الذين تحدث عنهم، وصار ضد ما قاله في الطابق الثاني من المبنى القديم، ولم يقل حتى ماذا تريدون منهم؟ لم أشأ أن يدافع عنا خائف على مركزه، أعدت كلمة "يا دكتور" الى جوفي ونطقت بكلمات أخرى للدفاع عن الكاميرا التي يحملها عيبان وقد صارت في تلك اللحظة أثقل من كل شيء حمله يوما الفتى القادم من ريف تعز . قالوا لمن تصورا! وما هي هذه القناة الجديدة التي تتحدثون عنها ومن هي بلقيس ! وبدأت إجراءات سحبنا الى السيارات الممتلئة بالمسلحين الذين أحاطوا بنا . في تلك اللحظة الفاصلة، خرج من تحدثوا إلينا قبل قليل . وبدأوا الدفاع عنا . الدفاع عن حقنا بالبقاء خارج المعتقل . قال طالب مازال يمتلك حلمه: إن كنتم ستأخذونهم فنحن معهم . ومنذ قيلت تلك العبارة زاد عددنا فجأة، أصبحنا كثيرين، لم أعد أنا وعيبان ياسين فقط، صار كل واحد في ساحة كلية الإعلام المفروشة بحجارة سوداء حادة وصغيرة يمثلنا، وتلاشى الخوف من العيون. وفي تلك اللحظة أقيم حولنا السور البشري
وابتعدنا عن بوابة السجن، اختفت القطرات من وجوهنا وعاد إليّ صوتي الذي كنت أحسست أنه اختفى وتحول إلى حشرجة سجين
.
كان طلاب الإعلام يدافعون عن الكاميرا التي نحملها، عن مستقبلهم، عن حلمهم الكبير، عن ما سيصبحونه يوما. ولم نكن معروفين بأسمائنا لديهم ولم يسألوا عنها ونحن نودعهم . تحول الدفاع الى احتجاج وهتاف ضد مسلحي #مليشيات_الحوثي الذين لم يكن قد مضى وقت طويل على سيطرتهم على صنعاء . قال عيبان ياسين عيبانوف: أشعروني أنني أحمل " ار بي جي " وليست مجرد كاميرا . ومنذ قال ذلك تحولت العدسات إلى أكبر سلاح تخشاه العصابة . أراد الطلاب مرافقتنا: نخاف أن ينتظروا خروجكم عند البوابة وتعتقلوا دون أن ندري . في تلك الأيام كان الطلاب أشجع من في العاصمة بالنسبة لنا رأيناهم أبطالا يواجهون ظلاما قادما من السرداب . وقد كان في ذلك حق فمن لديهم البنادق سلموها الى القاتل ليحظوا بليلة نوم إضافية في المنزل . العميد الذي خف خطاه حين رأى القيود تقترب من معاصمنا، شاهدته فيما بعد يجلس شاردا في المنصة في حفل تكريم صحفي دعاه الطلاب للاحتفاء به وخشيت أن يعتقل الرجل أثناء تكريمه وأن يترك العميد القاعة مسرعا، هؤلاء الذين يرونك أول مرة كثيرون في عالمنا، ويزداد عددهم كلما كبر الوحش. من يرونك تساق الى المعتقل وعينك معلقة بهم أكثر من أن نحصيهم، كثيرون من أصدقاء المعتقل علي الشرعبي لم يتحدثوا عنه إذا ما استثنينا محمد شمسان الذي لم يقل إنه رآه أول مرة ومازال يطرق الباب الموصد كل يوم تقريبا. حتى أن أحدهم حين أطل علي وقد ألبسوه ثياب غيره قال إنه كان يراه في بوفية وسط العاصمة، كيف يتم نسيان مؤسس تيار المستقبل وكيف نأمل ازدهار الحاضر وأكثر من حدثنا عن المستقبل في المعتقل ممتنعا عن الأكل وممنوعا من رؤية الشمس وبينه وبين صغاره الثمانية ألف باب ورمح . لقد استعدت اللحظة وأنا أتابع خبر اعتقال المصورين عيضة والخضر وكيف أنهما وهما يلاحقان في مدينتهما ويساقان إلى المعتقل، لم ينظر أحد في أعينهما غير السجان . لقد أصبحت أشعر أنني لم أنجُ من المعتقل و تنتابني أحاسيس السجين . فكيف تحس أنك حرٌ وأكثر من عشرين من أصدقائك بالمعتقل؟، وكل من يراهم يقنع ذاته مجبرا أنه لم يرهم من قبل؟!. لم أنسَ بعد كيف ينظر إليك من يعرفونك ويريدون إقناعك أنهم لم يسبق وشاهدوك كيف يحاولون محوك من ذاكرتهم وأنت ترى ذلك، في تلك اللحظة تشعر أن يد أحدهم تخنقك.