ولا شك في ان من المتعذر تعداد عدد الكتب في العالم عن الحرب. وقرأت، أخيراً، ان المعمورة عرفت أكثر من 3 آلاف حرب. وعدد الكتب التي تدور على هذه الحروب يفوقها عدداً... ولكن كل ما بلغنا عن الحرب رواه رجال. ونحن أسرى صور «مذكرة» وإحساس «مذكر» بالحرب، وكلمات «مذكرة».
في وقت ان النساء تلجأن الى الصمت، وإذا غامرن بالكلام، لا يروين حربهن، بل حرب الآخرين.
فيتبنين لغةً ليست من بناتهن، وتلتزمن النموذج المذكر الثابت.
و (لا ينبسن ببنت شفه إلا) في منازلهن أو حين الاجتماع برفيقات الجبهة القديمات.
وبعد ذرف الدموع، يروين حرباً تهزّ قلب المستمع وتصيبه بالوهن.
فيعمّ السكون روحه وانتباهه مشدوه: ليس ما يسمعه حوادث بعيدة ومنقضية، بل علم وفهم للكائن البشري الحاجة اليه لا تنضب.
فالقلب البشري ليس على هذا القدر من القوة وليس عصياً على ما نحسب، وهو يحتاج الى سند.
ومرويات النساء لا تشتمل على ما يروى على الدوام وما لم يعد يستوقف الأذن ولا يشد الانتباه، اي الوقوف عند بطولات بعض الناس حين قتلوا غيرهم، أو حين هزموهم، أو حين خسروا.
فسرديات النساء هي من طينة أخرى ومدارها على مسائل أخرى.
فحرب «الأنثى» لها ألوانها، وروائحها، وأضوائها، وحيز مشاعرها الخاص، وكلماتها.
ولا نقع فيها على أبطال ولا إنجازات لا تصدق، بل على أشخاص منغمسين في فعل بشري غير إنساني لا يطاق.
وليسوا (ليس البشر) وحدهم من يكابد (في الحرب)، بل تكابد معهم الأرض، والأشجار، والطبيعة كلها. وهذه تعاني من غير ان تنبس بكلمة، وهذا أفظع
حرب الأنثى لها ألوانها وروائحها وأضوائها وحيز مشاعرها الخاص وكلماتها
.
والسؤال يبرز: لماذا؟ لماذا، بعد انتزاع مكانتهن في عالم كان حكراً على الرجال، لم تدافع النسوة عن تاريخهن (أو قصتهن)، ولا عن كلماتهن ومشاعرهن؟ عالم برمته اخذ منا، هو قارة النساء القصية والمنعزلة.
ولكن ما الذي يحول دون ولوجها، والتوجه إليها والاستماع إليها؟ من جهة، جدار صفيق: مقاومة ذكرية، اصفها من غير تردد بمؤامرة سرية نسجها رجال؛ ومن جهة اخرى، شحٌ في حشريتنا قد يعود الى أن أياً منا لا ينتظر من مثل هذا السبر اكتشافٍ ما(او إماطة اللثام عن شيء).
فالرجل، على نحو ما يقال، يعيش من اجل الحرب والحديث عنها. ونحسِب اننا نعرف عن الحرب كل شيء. ولكن انا التي تسمع النساء- نساء المدينة والأرياف، نساء بسيطات ومثقفات، واللواتي أنقذن جرحى وحملن بنادق-، استسطيع ان أؤكد ان هذا حسبان خاطئ وليس في محله. لا بل هو خطأ فادح. فثمة حرب لا نعرفها.
والسؤال يبرز: لماذا؟ لماذا، بعد انتزاع مكانتهن في عالم كان حكراً على الرجال، لم تدافع النسوة عن تاريخهن (أو قصتهن)، ولا عن كلماتهن ومشاعرهن؟ عالم برمته اخذ منا، هو قارة النساء القصية والمنعزلة.
ولكن ما الذي يحول دون ولوجها، والتوجه إليها والاستماع إليها؟ من جهة، جدار صفيق: مقاومة ذكرية، اصفها من غير تردد بمؤامرة سرية نسجها رجال؛ ومن جهة اخرى، شحٌ في حشريتنا قد يعود الى أن أياً منا لا ينتظر من مثل هذا السبر اكتشافٍ ما(او إماطة اللثام عن شيء).
فالرجل، على نحو ما يقال، يعيش من اجل الحرب والحديث عنها. ونحسِب اننا نعرف عن الحرب كل شيء. ولكن انا التي تسمع النساء- نساء المدينة والأرياف، نساء بسيطات ومثقفات، واللواتي أنقذن جرحى وحملن بنادق-، استسطيع ان أؤكد ان هذا حسبان خاطئ وليس في محله. لا بل هو خطأ فادح. فثمة حرب لا نعرفها.
وحملت أولى التسجيلات... المفاجأة الأولى: شغلت هذه النسوة (اللواتي قابلتهن) وظائف عسكرية – وكنا حاملات ناقلات جرحى، وقنّاصات في فرق النخب، ومدفعيات (مطلقات المدافع)، وزعيمات وحدات الدفاع الجوي، وإطفائيات- في وقت انهن اليوم محاسبات، ومساعدات في المختبر، ودليلات سياحية، ومعلمات... ويكاد الفرق هذا بين احوالهن اليوم والأمس يوحي بأن ما تسرّ الواحدة منهنّ إليّ ليس من بنات ذكرياتها الخاصة، بل ذكريات فتيات أخريات.
لا اريد أن أتذكر ثلاث سنوات امضيتهن في الحرب... وطوال ثلاثة اعوام ما عدت امرأة وكان جسمي في سبات
وهّن، اليوم لا تخفين مفاجأتهن بما عاشته الواحدة منهنّ. وأمام عيني، «يتأنسن» التاريخ شيئاً فشيئاً.
وأقع على قاصات موهبات الواحدة منهنّ مؤثّرة تبثّ في المستمع الاضطراب والانفعال: في حيواتهنّ صفحات يندر أن نصادفها، ولو على صفحات الأثير على قلبي، دويستوفسكي.
في مثل هذه الصفحات تصبح الشخصيات لعبة في يد القدر، ولكنها لا تفقد القدرة على النظر الى نفسها نظرات فاحصة، تارة من زاوية المُحرك الأعلى وتارة أخرى من زاوية المُحرَك.
وأقع على قاصات موهبات الواحدة منهنّ مؤثّرة تبثّ في المستمع الاضطراب والانفعال: في حيواتهنّ صفحات يندر أن نصادفها، ولو على صفحات الأثير على قلبي، دويستوفسكي.
في مثل هذه الصفحات تصبح الشخصيات لعبة في يد القدر، ولكنها لا تفقد القدرة على النظر الى نفسها نظرات فاحصة، تارة من زاوية المُحرك الأعلى وتارة أخرى من زاوية المُحرَك.
ذات يوم، رفضت سيدة (كانت قائدة مقاتلة جوية) اللقاء بي. وشرحت لي الأسباب على الهاتف:» لا استطيع.
لا اريد أن أتذكر. ثلاث سنوات امضيتهن في الحرب... وطوال ثلاثة اعوام، ما عدتُ امرأة. وكان جسمي في سبات: انقطع الطمث، وهجرتني الرغبة.
مع أنني كنت امرأة جميلة... حين طلب يدي زوجي المستقبلي، كنا في برلين، أمام الرايخستاغ (البرلمان الألماني).
وقال لي:» الحرب انتهت. ونحن أحياء. تزوجيني». وددت لو في وسعي البكاء، والصراخ، وصفعه! كيف لي أن أتزوج به؟ أن أتزوجه على الفور؟ هل نظرتَ إلى ما أنا عليه اليوم؟ اجعلني امرأة أولاً (عاملني أولاً كما تعامل النساء): قدّم لي باقة من الأزهار، غازلني، وقل لي عبارات جميلة. وكدتُ أصفعه... ورغبت في ضربه... ولكن خده كان محترقاً، وقرمزيّ اللون، ورأيت انه فهم ما أعنيه: كانت الدموع تسيل على خده... على أثر الجرح الذي لم يندمل بعد... وسمعت نفسي أقول من دون أن اصدق أنا نفسي ما أقوله: نعم، أتزوجك».
وصلت الى منزل عائلة... كل من الزوج والزوجة شارك في الحرب، وتقابلا على الجبهة، وتزوجا: تزوجنا في الخندق، صنعت ثوبي من الشاش الرقيق». كان مدفعياً، وهي عامل ارتباط. قاطع الرجل زوجته، وأرسلها الى المطبخ قائلاً: «أعدّي لنا شيئاً». وبعد إصراري، وافق رغماً عنه على ترك الكلام لها، ولم يمسك نفسه عن توصيتها قائلاً بـ «إروي كما علمتك، من دون دموع ولا تفاصيل غبية من نوع كنت أرغب في أن أكون جميلة، وبكيتُ حين قصّوا ضفيرتي».
لا اريد أن أتذكر. ثلاث سنوات امضيتهن في الحرب... وطوال ثلاثة اعوام، ما عدتُ امرأة. وكان جسمي في سبات: انقطع الطمث، وهجرتني الرغبة.
مع أنني كنت امرأة جميلة... حين طلب يدي زوجي المستقبلي، كنا في برلين، أمام الرايخستاغ (البرلمان الألماني).
وقال لي:» الحرب انتهت. ونحن أحياء. تزوجيني». وددت لو في وسعي البكاء، والصراخ، وصفعه! كيف لي أن أتزوج به؟ أن أتزوجه على الفور؟ هل نظرتَ إلى ما أنا عليه اليوم؟ اجعلني امرأة أولاً (عاملني أولاً كما تعامل النساء): قدّم لي باقة من الأزهار، غازلني، وقل لي عبارات جميلة. وكدتُ أصفعه... ورغبت في ضربه... ولكن خده كان محترقاً، وقرمزيّ اللون، ورأيت انه فهم ما أعنيه: كانت الدموع تسيل على خده... على أثر الجرح الذي لم يندمل بعد... وسمعت نفسي أقول من دون أن اصدق أنا نفسي ما أقوله: نعم، أتزوجك».
وصلت الى منزل عائلة... كل من الزوج والزوجة شارك في الحرب، وتقابلا على الجبهة، وتزوجا: تزوجنا في الخندق، صنعت ثوبي من الشاش الرقيق». كان مدفعياً، وهي عامل ارتباط. قاطع الرجل زوجته، وأرسلها الى المطبخ قائلاً: «أعدّي لنا شيئاً». وبعد إصراري، وافق رغماً عنه على ترك الكلام لها، ولم يمسك نفسه عن توصيتها قائلاً بـ «إروي كما علمتك، من دون دموع ولا تفاصيل غبية من نوع كنت أرغب في أن أكون جميلة، وبكيتُ حين قصّوا ضفيرتي».
«قطعنا مسافة 40 كيلومتراً سيراً على الأقدام... كنا كتيبة كاملة، معظمها من الفتيات. وكنا نموت من الحر، والحرارة 30 درجة على الأقل.
كثيرات من الفتيات أتتهن... على أي وجه اقول ما سأقوله... كان يسيل على سيقانهن... لم يزودونا بشيء. وبلغنا محطة مياه. ورأينا نهراً... والفتيات، اللواتي أتكلم عن حالهنّ، ركضن الى المياه. ولكن الألمان على الضفة الأخرى فتحوا النار علينا.
وكانوا يحسنون التصويب... ونحن، كنا نحتاج الى الاستحمام، وكنا نخجل خجلاً كبيراً من الحال التي كنا عليها امام الرجال... ولم نشأ الخروج من المياه، وسقطت احدى الفتيات...». «كنت في الخدمة الليلة... ودخلت حجرة المصابين إصابة بالغة... وكان نقيباً مصاباً... وحذّرني الأطباء قبل بدء دوامي بأنه سيموت في هذه الليلة ولن تكتب له الحياة. وسألته» كيف الحال؟ هل أستطيع مساعدتك». لن أنسى أبداً ما حصل... فجأة أضاءت ابتسامة وجهه المتعب:» فكّي أزرار قميصك... مضى وقت طويل لم أرَ فيه زوجتي...». احمرت وجنتي، تمتمتُ شيئاً وخرجت... وعدّتُ بعد ساعة... وجدته فارق الحياة والابتسامة لم تبارح وجهه».
«وشى بنا أحدهم... وعرف الألمان موقعنا. فحاصروا الغابة وأطرافها. واختبأنا في المستنقعات. وندين بحياتنا لهذه المستنقعات حيث لم يغامر الألمان (بالتقدم إليها).
وكانت المستنقعات تبلع كل شيء، الآلات والبشر. وطوال اسابيع، أمضينا اياماً كاملة واقفات ومستوى المياه يبلغ الرقبة.
وكانت معنا خبيرة برقيات صوتية. وهي أنجبت منذ وقت قليل. والطفل كان بالغ الصغر، واحتاج الى الرضاعة من الثدي. ولكن الأم لم يكن في متناولها طعام حين الجوع، وشحّ حليبها، وكان ولدها يبكي. وكان الألمان في الجوار... مع كلاب... وإذا سمعونا، ضاعت حيواتنا، المجموعة كلها. كنا نحو 30 شخصاً... وأخذنا قراراً.
ولم تجرؤ أي منا على إبلاغ الوالدة بما أمر به قائد المجموعة، ولكن الوالدة خمّنت الأمر، وأغرقت الولد المقمّط في المياه. لم يصمد طويلاً... ولم يعد إلى البكاء. مات. ولم يعد في مقدور الواحدة منا رفع عينيها، والنظر إلى الأم أو إلى أيّ منا...».
الحياة اللندنيةكثيرات من الفتيات أتتهن... على أي وجه اقول ما سأقوله... كان يسيل على سيقانهن... لم يزودونا بشيء. وبلغنا محطة مياه. ورأينا نهراً... والفتيات، اللواتي أتكلم عن حالهنّ، ركضن الى المياه. ولكن الألمان على الضفة الأخرى فتحوا النار علينا.
وكانوا يحسنون التصويب... ونحن، كنا نحتاج الى الاستحمام، وكنا نخجل خجلاً كبيراً من الحال التي كنا عليها امام الرجال... ولم نشأ الخروج من المياه، وسقطت احدى الفتيات...». «كنت في الخدمة الليلة... ودخلت حجرة المصابين إصابة بالغة... وكان نقيباً مصاباً... وحذّرني الأطباء قبل بدء دوامي بأنه سيموت في هذه الليلة ولن تكتب له الحياة. وسألته» كيف الحال؟ هل أستطيع مساعدتك». لن أنسى أبداً ما حصل... فجأة أضاءت ابتسامة وجهه المتعب:» فكّي أزرار قميصك... مضى وقت طويل لم أرَ فيه زوجتي...». احمرت وجنتي، تمتمتُ شيئاً وخرجت... وعدّتُ بعد ساعة... وجدته فارق الحياة والابتسامة لم تبارح وجهه».
«وشى بنا أحدهم... وعرف الألمان موقعنا. فحاصروا الغابة وأطرافها. واختبأنا في المستنقعات. وندين بحياتنا لهذه المستنقعات حيث لم يغامر الألمان (بالتقدم إليها).
وكانت المستنقعات تبلع كل شيء، الآلات والبشر. وطوال اسابيع، أمضينا اياماً كاملة واقفات ومستوى المياه يبلغ الرقبة.
وكانت معنا خبيرة برقيات صوتية. وهي أنجبت منذ وقت قليل. والطفل كان بالغ الصغر، واحتاج الى الرضاعة من الثدي. ولكن الأم لم يكن في متناولها طعام حين الجوع، وشحّ حليبها، وكان ولدها يبكي. وكان الألمان في الجوار... مع كلاب... وإذا سمعونا، ضاعت حيواتنا، المجموعة كلها. كنا نحو 30 شخصاً... وأخذنا قراراً.
ولم تجرؤ أي منا على إبلاغ الوالدة بما أمر به قائد المجموعة، ولكن الوالدة خمّنت الأمر، وأغرقت الولد المقمّط في المياه. لم يصمد طويلاً... ولم يعد إلى البكاء. مات. ولم يعد في مقدور الواحدة منا رفع عينيها، والنظر إلى الأم أو إلى أيّ منا...».