وفي أحسن الأحوال نتصرف كناشطي المنظمات غير الحكومية، ليس فقط من حيث البلاهة ولكن أيضا من حيث الأفق الضيق الذي يظل يحكمنا ويتحكم بفاعليتنا. نتصرف كتابعين، وأما التحركات الجماعية فقد أصبحت عبارة عن حملات إلكترونية تفتقد للخيال. وهناك صنف دوره فقط أن يعلق على الأحداث.
بالطبع هذا الوضع ليس من فراغ، بل هناك مقدمات كثيرة هي من تقف خلفه: ثقافة سياسية منحطة، وثقافة الإعلاء من شأن المصالح الشخصية وقوة اليأس التي تجعل الناس منخرطين في سباق البحث عن ملاذات فردية، ثم هذا الذي يحدث حيث بات الشأن العام مخصخص لصالح أطراف محددة داخلية وخارجية. هي من تناضل أو تعرص وهي من تجني الإرباح أو تمنى بالخسائر. وباقي أبناء الشعب وقطاعاته الواسعة ليس لهم علاقة بمصيرهم ومصير بلادهم.
كل القضايا الكبيرة، أصبح أي عمل في سبيل الانتصار لها، إما أنه متعذرا ويحتاج إلى قوة سياسية ومادية هي في الأصل غير متوفرة، واما أنه يقبل في أن يصبح نضالا في كنف أحد تلك الأطراف المهيمنة على قضايا الشأن اليمني، ويكون الشخص الذي يقوم به مجرد جندي في معارك تصفية الحسابات. وهذا نضال لا علاقة له بالناس وبالمصلحة العليا للبلد.
مثلا محاولة السعودية بناء نفوذ لها في المهرة بعيدا عن الحكومة الشرعية، مواجهة ذلك أصبح هذا شأنا عمانيا، وإذا أردت أن تجابه هذه الأطماع بصفتك يمني غيور على بلدك، فليس أمامك سوى الالتحاق بالمعسكر العماني المتشكل والذي بدأ في مناهضة التواجد السعودي فعلا.
هذا أمر لا يتعلق بالأفراد فحسب، ولكن حتى الجهات الحكومية لو أستيقظ ضميرها، ورأت أن المجابهة واجبة، فلابد لها من الالتحاق بالمعسكر العماني، ومن موقع التابع. وإذا أردت أن تقوم بعمل مستقل فأنت فقط تساند طرف ضد طرف.
نفس الأمر عندما يتعلق الأمر بمواجهة الحوثي، من وقت مبكر أصبح هذا شأنا سعوديا. وكثيرا ما سمعنا عن التبريرات التي تعيد توقف الجبهات إلى أن التحالف أمر بذلك وهدد بقصف أي تحرك. وكأن التحالف هو من يعاني من إجرام الحوثي وهيمنته على مقدرات البلد!
ومؤخرا فإن وقف عربدة الأمارتين في الجنوب، أصبح ايضا شأنا سعوديا. ونحن نكتفي بالتصفيق مرة للبيانات السعودية، وباللعن والشجب مرات. أصبحنا عبارة عن جمهور. وشأن بلادنا هو شأن الآخرين.
الحرب تدار من قبل السعودية والتخريب يدار من قبل الإمارات، ونحن وكأننا غير معنيين بالأمر. وليست هنا الكارثة. الكارثة أننا نرى هذا عاديا وأصبحنا متصالحين معه.
معاناتنا لم تعد تحثنا على شيء. نعاني من الحصار، يقتل أطفالنا، نواجه تهديدا حقيقيا قد يأتي على كل المنجزات الوطنية على شحتها: الجمهورية والديمقراطية والوحدة. كل هذا يزل يحدث ونحن ننتظر أن تغير السعودية من وجهة نظرها لكي تبدأ بخوض حرب جدية. وننسى أن مستقبلنا هو الذي يضيع وليس مستقبل السعودية أو الإمارات.
وهكذا سنجد كل مسئولينا وكل سياسينا، لفرط تفاهتهم وانحطاطهم، أصبحوا تابعين بشكل مطلق.
وأصبحت قضايانا مخصخصة. كل دولة معنية بجزء. وعلى الأرض. كل جماعة تعمل وكيلا لاحدى هذه الدول ضدا على طموحات وأحلام واليمنيين وغالبا بقتلهم وتوسيع رقعة الخراب.
بالطبع، نتحدث عن ظاهرة يعرفها الجميع، ولكن الحديث عنها بصوت مسموع هو مقدمة لإخراجها من دائرة الاعتياد، والبدء بمحاولة تحليلها وفهمها وبحث ممكناتنا التي لا تجعلنا وكأننا نؤدي وظيفة لحساب هذا الطرف أو ذاك.
فخصخصة الشأن العام، ما هو إلا نتيجة طبيعية لمسيرة طويلة، بدأت بخصخصة المصالح العامة، بخصخصة الثروات، وبخصخصة الدولة والجيش. المدخل لمواجهة هذه التركيبة العجيبة سوف تبدأ من بناء برنامج متكامل لمواجهة منظومة الخصخصة كلها. او هذا ما يتوجب علينا فعله.