في المقدمة، يكتب المؤلف: "لقد دعوت الولايات المتحدة إلى الاضطلاع بإعادة الإعمار في سورية"، شارحا أن الهدف من مجلده القصير "ليس تقديم معالجة عامة وشاملة لموضوعه، وإنما التعبير عن رغبة شعب مضطهد في الخلاص. إنه تعبير موجز عن الأمل المتقد بأن تستجيب أميركا لدعوة المظلومين، ودعوة قدرها الكبير، بالذهاب لنجدة الشرق الأدنى".
سوف يكون القارئ معذوراً إذا ظن أن هذه الكلمات كُتبت كدعوة لباراك أوباما أو دونالد ترامب للتوسط في النزاع السوري الذي ما يزال مستعراً منذ ست سنوات، والوقوف إلى جانب الثوار في قتالهم ضد الرئيس بشار الأسد. سوى أن الكتاب يستخدم عبارة "الشرق الأدنى" التي لم تعد قيد التداول كثيرا في هذه الآونة، أو الإحالة في فقرة أخرى إلى "الأقاليم الآسيوية التركية" والدعوة إلى إنقاذها من "سوء الحكم التركي" و"المضاعفات الأوروبية".
في الحقيقة، يشكل "أميركا: أنقذي الشرق الأدنى" كتاباً صغيراً غريباً، كتبه في العام 1918 إبراهيم متري الرحباني، وهو كاتب لاهوتي وسياسي كان قد هاجر إلى الولايات المتحدة في العام 1891. وينحدر الرحباني أساسا من بلدة الشوير في لبنان الحالي، والتي كانت في ذلك الحين جزءا من سورية الكبرى والامبراطورية العثمانية.
في الحقيقة، يشكل "أميركا: أنقذي الشرق الأدنى" كتاباً صغيراً غريباً، كتبه في العام 1918 إبراهيم متري الرحباني، وهو كاتب لاهوتي وسياسي كان قد هاجر إلى الولايات المتحدة في العام 1891
ويبدو أن كتابه يلخص الآمال التي كانت المنطقة قد علقتها على أميركا، حيث بدا أن الكثيرين في المنطقة لم يقطعوا الأمل من تدخل "أرض الفرصة". ومع أنه كُتب خلال أهوال الحرب العالمية الأولى التي جلبت على المنطقة مجاعة مدمرة، فإنه يظل يذكِّر بأوقات أكثر براءة، لصورة الولايات المتحدة أو لعلاقاتها مع العالم العربي على حد سواء.
كان ذلك قبل أن تصبح الولايات المتحدة متورطة فعليا في الشرق الأوسط، قبل خلق إسرائيل، وقبل الدعم الأميركي لكل من إسرائيل والرجال الأقوياء في مختلف أنحاء العالم العربي. وفي مقابلة مع صحيفة "وول ستريت جورنال" في العام 2009، قال آية الله العظمى محمد حسين فضل الله: "كنا في المنطقة نحب أميركا في الأربعينيات. كانت مبادئ (الرئيس وودرو) ويلسون عن (تقرير المصير الوطني) تمثل الحرية في مواجهة أوروبا التي كانت تستعمرنا". ويشير فضل الله، الذي كان رجل الدين الشيعي الأكثر نفوذا في لبنان والزعيم الروحي لحزب الله، إلى دعم أميركا الذي لا يلين لإسرائيل كنقطة تحول في كيفية نظر العرب إلى الولايات المتحدة.
مع ذلك، يتدفق ذلك الأمل بشكل أبدي. وحتى في هذه الأوقات، بينما أكتب من بيروت، كانت المعارضة السورية وجماعات الثوار عبر الحدود فقط يبتهجون بالضربة الأميركية، متشجعين بصواريخ توماهوك التسعة والخمسين، وآملين أن تنقذهم الولايات المتحدة الآن من الأسد.
وفي وسائل الإعلام الاجتماعية، كسب ترامب اسما حربيا ودودا، "أبو إيفانكا الأميركي"، كعلامة امتنان على انقضاضه على الرئيس السوري، وربما كإيماءة ود لابنته التي يقال إنها ضغطت عليه ليفعل شيئاً إزاء استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية.
كتبت كندة قمبر، وهي صحفية تعمل في الولايات المتحدة وتؤيد المعارضة السورية، على جدارها في "فيسبوك" أنه إذا سقط الأسد خلال فترة ترامب في المنصب، فإن على السوريين أن يطلقوا اسم الرئيس الأميركي على ميدان في بلدتها الأصلية في سورية، درعا، حيث بدأت الانتفاضة السورية في آذار (مارس) 2011. وتعقد قمبر مقارنة مع كوسوفو، حيث أقيم تمثال للرئيس الأسبق بيل كلينتون اعترافا بفضله في التدخل خلال حرب البلقان التي أطاحت بسلوبودان ميلوسيفيتش.
يبدو أن أميركا تعلمت دروسا قليلة من الإخفاقات المتواصلة والتداعيات القاتمة لتدخلاتها، من العراق إلى أفغانستان إلى أميركا اللاتينية، لكن لدى أولئك في المنطقة الذين يتطلعون إلى الولايات المتحدة من أجل الخلاص ذاكرات قصيرة، أيضاً. وعندما سألت مسؤولا رفيعا في إدارة أميركا عن السبب في أنهم لم يكونوا يستجيبون للدعوات المطالبة بتدخل أكثر قوة في سورية، نظر المسؤول إلي محتاراً، وقال: "سمِّ لي تدخلاً عسكرياً أميركياً ناجحاً واحداً بعد الحرب العالمية الثانية"؟
لكن أولئك الذين يعارضون الأسد وحليفيه، حزب الله وإيران –في سورية أساسا، وإنما أيضا في لبنان المجاور الذي احتلته سورية لمدة 30 عاما- كانوا مبتهجين ومرتاحين في إرسالياتهم على "تويتر" وتحديثاتهم في "فيسبوك" ومقالاتهم المنشورة. فعلى مدى ست سنوات، كانت المعارضة تنتظر هذه اللحظة، بينما يناشد قادة المعارضة السورية المختلفين، وناشطو المجتمع المدني، وأنصارهم في الولايات المتحدة، إدارة أوباما بأن تكون أكثر قوة في ردعها للأسد، وأكثر كرما بالأسلحة مع الثوار.
على الرغم من بعض الأمل بأن يكون لموقف الإدارة الجديدة المناهض لإيران تأثير على الصراع السوري، لم يتوقع المعسكر المعادي للأسد بحلول كانون الثاني (يناير)، بعد أن أصبح مستنفداً وخائب الأمل من واشنطن العاجزة، أن تتوقف سلسلة انتصارات الزعيم السوري في ميدان المعركة على يد رئيس حظر أيضاً دخول اللاجئين السوريين إلى أميركا.
حتى كتابة هذه السطور، ما يزال التأثير الحقيقي للضربة الأميركية والاستراتيجية التي ستليها غير واضح، ويدرك أولئك الذين يحتفلون بصواريخ التوماهوك ذلك جيداً. لكن هذه كانت مجرد ضربة عسكرية أميركية أخرى ضد بلد عربي. وقد فعل ترامب شيئاً لم يفعله أي قائد غربي أبداً من قبل: استخدام القوة ضد عائلة الأسد التي حكمت سورية منذ العام 1971 بالدهاء والوحشية. وباستثناء ضربة واحدة وجيرة عبر الحدود وجهتها القوات الأميركية في العراق ضد متشددي تنظيم القاعدة داخل سورية في العام 2008، ومختلف العقوبات الاقتصادية غير الفعالة، تجنب الأسد الأب والابن غالبا دفع ثمن لقاء استخدام العنف ضد شعبهما؛ ودعمهما للمنظمات المتطرفة مثل حزب الله وحماس؛ أو صلاتهما المزعومة بحوادث عنيفة، بما فيها تفجير سيارة مفخخة في باريس في العام 1982 وسلسلة من الاغتيالات في لبنان.
كان السوريون الذي عاشوا تحت حكم الأسد القمعي، واللبنانيون الذين عاشوا تحت الاحتلال السوري، قد حاولوا طويلاً إقناع المسؤولين الأميركيين بأن اللغة الوحيدة التي يفهمها الحكام من عائلة الأسد هي التهديد أو استخدام القوة. وعندما كانت الدبابات التركية على وشك الاندفاع إلى داخل سورية في العام 1998، بعد حرب كلمات حول دعم سورية للانفصاليين الأكراد، فعل حافظ الأسد ما لم يتوقع منه أحد أن يفعله: تراجع.
ربما لا ينوي ترامب إسقاط بشار الأسد عن عرشه. و، نعم، سعى ترامب وسلفه إلى فك ارتباط الولايات المتحدة بمنطقة فوضوية. وبالتأكيد، ظنت روسيا أنها تستطيع أن تحل محل النفوذ الأميركي هناك. لكن واشنطن ما تزال قوة رئيسية في الوقت الراهن، لأن تأثيراتها مندغمة عميقاً في تحالفات وعمارة الشرق الأوسط الأوسع –سواء كان ذلك للخير أو الشر.
وهكذا، بينما يشعر الناس بالاستياء من أميركا لدعمها الرجال الأقوياء في المنطقة، مثل الرئيس المصري حسني مبارك، والآن الجنرال عبد الفتاح السيسي، أو استعدادها للتغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان في البحرين، فإنهم يعرفون أيضاً، في المقابل، أن أميركا فقط هي التي تمتلك القوة لتحويل هذه الديناميات لصالح المزيد من الحرية. وفي الحقيقة، تشكل الولايات المتحدة في الوقت نفسه المضطهِد غير المباشر والمنقذ، وهي دينامية كفيلة بإدامة علاقة حب-كراهية متعارضة بين العرب وبينها.
في أواخر شباط (فبراير) 2011، بينما كانت الانتفاضة الليبية جارية وهدد معمر القذافي باصطياد معارضيه في زقاق بعد زقاق، أدهشني التماس محموم، بثته على الهواء محطة "سي. إن. إن"، من امرأة تتحدث من طرابلس بإنجليزية ركيكة: "أرجوك ساعدنا، سيد أوباما، أرجوك ساعدنا"! كيف يمكن أن يحدث ذلك، في منطقة كانت فيها الولايات المتحدة، قبل سبع سنوات فقط، موضوعا للانتقاد والاستياء والهجوم بسبب غزوها واحتلالها العراق وإفساده؟
بينما يشعر الناس بالاستياء من أميركا لدعمها الرجال الأقوياء في المنطقة، مثل الرئيس المصري حسني مبارك، والآن الجنرال عبد الفتاح السيسي، أو استعدادها للتغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان في البحرين، فإنهم يعرفون أيضاً، في المقابل، أن أميركا فقط هي التي تمتلك القوة لتحويل هذه الديناميات لصالح المزيد من الحرية
في أواخر آب (أغسطس) 2013، كنتُ في طريقي من واشنطن إلى بيروت عندما عبر الأسد خط أوباما الأحمر حول الأسلحة الكيميائية، وكانت طبول الحرب تُقرع. وكانت المعارضة السورية والثوار المسلحون يأملون أن تكون ساعة الأسد قد أزفت أخيراً. وفي لبنان، كان رد الفعل الأولي في المعسكر المناهض للأسد إيجابيا أيضا. لكن أوباما وارب واستشار الكونغرس. وبينما كانت عناوين الأخبار تحوِّل اهتمامها عن الضربة المحتملة إلى إغلاق المجال الجوي اللبناني والموانئ، استولى الخوف حتى البعض من أولئك الذين دعوا بنشاط إلى توجيه ضربات ضد سورية.
وعندما تم إلغاء الضربات والإعلان عن صفقة التخلص من الأسلحة الكيميائية، أصيب الكثير من منتسبي المعارضة السورية –من الثوار، وإنما أيضا من المدنيين الذين يتعرضون لقصف طائرات النظام- بشعور عميق بالهجران، وأدركوا حقيقة أنهم وحدهم حقاً. وقد وصف البعض لي ذلك بأنه مزق قلوبهم. ولم تفعل اتفاقية الأسلحة الكيميائية أي شيء لوقف الموت القادم من السماء بينما واصلت قنابل البراميل والذخائر الأخرى الإمطار على رؤوس السكان المدنيين. وفي محادثة بعد سنة من ذلك مع لبناني سني، متعلم في الغرب، وسياسي تقدمي، أدهشني سماع الحدة التي انتقد بها تخلي أوباما عن السوريين وتركهم لمصيرهم. وقال إن الولايات المتحدة والغرب يجب أن لا يتحدثا مرة أخرى أبداً عن دورهما كمدافعين عن الحرية والديمقراطية.
وإذن، هل تمت استعادة ذلك المناخ الآن، مع ضربات ترامب؟ من المؤكد أنه تصرف بسرعة كافية، بحيث لم يكن هناك تراكم للقلق، على الرغم من الفرقعة التي يعنيها عكس وجهة السياسة حول التدخل في سورية. لكنك إذا ما قرأتَ الصحف واستمعتَ إلى التعليقات التلفزيونية، فستجد من الواضح أنه ليس هناك أحد تخالطه أي أوهام إزاء حوافز ترامب. إن ما تريده المعارضة السورية هو استثمار استعداده للضرب لمصلحتها. وكتبت بسمة قضماني، وهي عضو في لجنة المفاوضات العليا للمعارضة السورية، أن الضربة الأميركية تشكل "خطوة رئيسية أولى في اتجاه إنهاء الفوضى ووضع أسس لعملية سلام في جنيف".
لكن هناك طبقة جديدة أُضيفت إلى التعلق العاطفي المرضي بأميركا، بسبب طبيعة رئاسة ترامب. وبينما أشاهد ما يحدث، وجدت ارتباكاً إلى جانب الابتهاج. إن الناس يبدون ممزقين. هل نحتفل نحنُ حقاً بمفترس جنسي منع دخول السوريين إلى الولايات المتحدة؟ هل نستطيع أن نحتفل بالرجل الخطأ الذي يفعل الشيء الصحيح، بعد أن رفض رجل جيد القيام بذلك؟
ثم، هناك العلاقات المتعارضة بشدة مع القوة العسكرية الأميركية. وتعترف قضماني بأنه بينما تستطيع الضربات أن تساعد في تمهيد الأرضية لمحادثات سلام، فإن مشاهدة بلدها وهو يصبح هدفاً للصواريخ الأميركية لم تكن شيئاً سهلاً. وفي مقالة قوية في صحيفة "وول ستريت جورنال"، كتب قاسم عيد، الناجي من هجوم الغاز في العام 2013، أن "ترامب أعطى الناس أملاً"، لكنه طرح بعد ذلك أسئلة مهمة: أين هي حشود الأميركيين الذين يتظاهرون ضد حظر ترامب سفر اللاجئين؟ لماذا لم يتجمعوا خارج البيت الأبيض لمطالبة ترامب بالوقوف في وجه استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية؟ وكتب قاسم، مرددا صدى كتاب الرحباني في العام 1918: "إذا كان الأميركيون يهتمون حقاً، فإنهم يستطيعون المساعدة في الإطاحة بطاغية سورية".
تكمن الإجابات عن أسئلة قاسم جزئياً في تناقضات اليسار الأميركي أو الرفض المباشر لاستعمال القوة، حتى عندما يأتي الأمر إلى ما يُسمى مسؤولية الحماية.
في هذه العلاقة القائمة على الاتكال العاطفي المرضي، من الصعب العثور على أرضية وسطى ثابتة. وكان ما لم يفهمه أوباما، هو حقيقة أنه بحلول الوقت الذي وصل فيه إلى سدة السلطة، كانت المنطقة قد توقفت عن الغليان بسبب الغزو الأميركي للعراق. وبحلول بدء الأسد بقتل المحتجين السلميين، كانت المنطقة قد تحولت إلى دائرة كاملة تشتكي من عدم رغبته في التدخل.
ما يحتاج ترامب إلى فهمه هو الدرس الذي تعلمه جورج دبليو بوش وهو يقف على منصة في العراق بجوار رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في كانون الأول (ديسمبر) 2008: إن المحرِّر الذي يكون محلاً للحفاوة في أحد الأيم، يمكن أن يتلقى حذاءً يرمى على رأسه في اليوم التالي.
لعل ما قد يساعد ترامب على التعامل مع العواطف المتقلبة التي تثيرها أميركا في الشرق الأوسط، هو أنه شخص انفعالي يتصرف برد فعل انعكاسي مثلنا نحن تماماً. ففي الشهر الماضي فحسب، لم يكن يهتم كثيراً بمحنة المدنيين السوريين الذين يموتون تحت قصف الروس وقوات الحكومة السورية. والآن، أصبح يصف الأسد بأنه حيوان ويتحدث عن "الأطفال الجميلين" الذين ماتوا في خان شيخون.
اليوم، يحتفي البعض في العالم العربي بدونالد ترامب. لكنه ينبغي أن لا يتفاجأ إذا وجد هؤلاء الناس أنفسهم يلعنون اسمه غداً
فورين بولسي