الصحفي سلمان الحميدي يكتب في رثاء أخيه محمد .. قتلوك قبل أن نفرح بدخولك الجامعة
قهروني عيال الذين.. قتلوا أخي محمد، هشموا روحي كما يهشم الجزار عظام الجدي الوليد للثري الأدرد.
قاتل قتله، وقاتل حرمنا من نظرة الوداع.
آخر مرة رأينا فيها محمد وشممناه؛ قبل ستة أشهر، رغم أن المسافة التي بيننا لا تتعدى الثلث ساعة قبل الحرب. غياب محكوم بالقسرية بسبب الحصار المفروض على المدينة.
قبل ستة أشهر، عاد محمد إلى البيت بعد إصابته الأولى. استقبلته البلاد كبطل، لمحمد شعبية عالية رغم صغر سنه.
قبّل رأسي، عانق أبي وأمي بحفاوة. أبي مصاب بالاكتئاب ويهمه محمد في هذه الفترة، بدأنا بتجهيز محمد للفرحة التالية. وأقنعته: اتأخر سنتين وسأفعل لك حفلة ما حصلتش بالحرب لا أستطيع أن أشتري حتى عقد فل.
كان يسمعني بسرعة، يكبر بسرعة، يعيش الحياة بسرعة.
يقول لي: بعدك.
وأنا أحبه كثيرًا. أحبه لدرجة أني أخاف من أن تجرحه كلماتي، لذا لم أكن أنصحه مباشرةً، أو أعبر له عن زعلي منه وجهًا لوجه، أخاف عليه هذا عضدي وسندي، أي شيء أخاف منه؛ أنهيه برسائل SMS، نستمر طبيعين. وما من حلم ينزرع في رأسي إلا وكان محمد ماؤها والتراب.
عاد بسرعة إلى جبهات القتال في المدنية، عاد إليها، دون وداع كاحتراز أمني، كي لا تعتقله مليشيا الحوثي، صار لمحمد شعبية في المدينة أيضًا، كنا نجهزه للذهاب إلى الجامعة. رغم الحرب أشير عليه، فيرد عليّ: أنا بعدك. يالله ابصر..
لا جامعة ولا فرح.
محمد في الجبهة الشمالية يقود موقعًا، أصيب للمرة الثانية، تغلب على الاصابة ثم عاد.
يد أمي على قلبها. ويد أبي في رأسه. يدي على قلبي يا محمد، وعيني على أبي وأمي.
صار بطلًا، الجميع يسألني عن محمد، ويبتسمون، بائع المواشي ومهندس الحواسيب، طالب الجامعة والميكانيكي، الكبير والصغير، وكلما سألني أحدهم عنه: متى شروح؟ كنت أخاف.
أفراد من المنطقة يلتحقون في صفوف المقاومة داخل المدينة، كنت ألتقي بولاة أمورهم، كانوا قلقين، بعد فترة كانوا فرحين: خلاص، قدهم عند محمد اخوك.
محمد أخي الصغير، يحيطهم بالحنو ويطمئن أهاليهم. يقاسمهم القات ويطالب لهم بالذخيرة، ينسى نفسه بحيث لا يحن عليه أحد ولا علينا.
محمد شجاع خلف الأضواء، الله في قلبه، والمدينة والمساكين في رأسه،
محمد صموت أمام الأضواء، قروي يحدق للكاميرات الحديثة بغرابة.
ظهر على قناة العربية، أثناء تبادل الأسرى من المنفذ. لا يتكلم. يظهر وهو يستقبل الأسرى ضمن المستقبلين،
آخر مرة، ظهر على الجزيرة مباشر، في الهجوم الأخير بالجبهة الغربية، محمد على مشارف الستين، في الليل كان هناك في أول نقطة تأمين للذين فتحوا الضباب.
يطلبونه لأي جبهة ، لا يتردد، ونحن نحسب أنه بمكان واحد، أعرف من الآخرين، فيشتد خوفي..
محمد ريحانتي، سندي وعضدي، بطلي الحقيقي الذي أزهو به أمام الآخرين..
محمد يقف ضد أي خطأ. بلاطجة محسوبون على المقاومة يريدون التهبش على مسكين يبيع بترول داخل قوارير، واجههم محمد بحذائه. أوقفهم هذا الناحل.
قتله بلاطجة، محمد صار شهيدًا..
لن يذهب إلى الجامعة، ولا إلى الفرحة التي تستقبله على ضفاف الأيام.
كان قد كتب، وكأنه يروضنا على تقبل الفاجعة: سأموت في الميدان ولا نامت أعين الجبناء.
لكنها الصاعقة،..
فقدت كل شيء، أبي وأمي حرموا من النظرة الأخيرة.. روح أخي عند الله وجسده في المستشفى. يتوتر أبي، ينزوي وحيدًا، أبي يتناول عقاقير مضادة للاكتئاب، تتفاقم حالته، آخر اللمسات العطوفة مع محمد كانت قبل ستة أشهر.
يقول أبي للناس: عادنا زعلان للآن اننا ما قَبَّلْتوش ليلى للآن.. وهي ماتت وعمرها اسبوعين.
شفقة الآخرين لنا جعلتهم يتواصلون مع متحوثين في خط تماس المواجهات كي يسمحوا لأبي بالمرور.. باءت بالفشل: ممنوع الدخول حتى لوداع الأجساد المسجاة.
أهالوا التراب على محمد.
وجاهرت للعالم بقهري..
لماذا يالله جعلتهم يستمتعون بذلك.. لك العتبى حتى ترضى.. ولا حول ولا قوة إلا بك.