أصدر الأكاديمي اليمني عبد الحميد الحسامي كتابا بعنوان "ذاكرة الزنار.. قراءة لصورة اليهودي في المثل الشعبي اليمني"، وهو دراسة ثقافية ترصد صور التعايش بين أتباع الديانات المختلفة كما جرت وقائعها في اليمن، وصورة الآخر لدى الطرفين اليهودي والمسلم من خلال الأمثال الشعبية التي قيلت في اليهود أو تلك التي قالوها هم عن الطرف الآخر، وعبروا فيها عن رؤيتهم له.
والزنار الذي ورد في العنوان هو الرمز (الهوية) لليهود الذي فرضته عليهم ظروف خارجة عن إرادتهم لكنه تحول إلى رمز ديني وقومي لهم، وهو يمثل أحد أبعاد الوجود اليهودي في اليمن على المستوى الاجتماعي والثقافي كما تجسده الأمثال الشعبية اليمنية.
وتوزعت الأمثال في الدراسة على عدد من صور الحياة المشتركة بين المسلمين واليهود الذين عاشوا متجاورين في المدن والقرى، ومختلطين في معايشهم وأرزاقهم.. وعلى وجه الخصوص: العقائد والعبادات، والمهن، والأخلاقيات وبعض الصفات المتداولة عن اليهود في كل زمان ومكان، وهي صور بعضها ذو بعد إيجابي يعكس تقييما جديا من المسلمين لليهود، وبعضها سلبي يعكس الصورة السلبية للعلاقة بين الطرفين.
وفي البعد الإيجابي نجد أكثر من إقرار من المسلم لليهودي بأنه شديد التمسك بعقيدته الدينية وتقاليدها في بيئة مغايرة له، لا يحيد عنها ولا ينسى واجباتها وتعاليمها. ومن هذه الأمثال المثل القائل: "اليهودة في القلب"، و"اليهودي يهودي ولو أسلم"، و"اليهودي الغبي زنانيره في قلبه"، وهي أقوال وإن كانت تعكس ضيق المسلم من بعض مواقف اليهود فإنها تقر له بتعلقه بدينه المتغلغل في سويداء القلب.
"هناك أمثال تقدر تعظيم اليهود ليوم السبت حتى إنهم يرفضون العمل فيه مع المسلمين ولو كان موافقا لحاجاتهم كالمثل القائل "السبت سبت ولو بين الخمسين" أي السبت مقدس ولو جاء في الأيام التي تسبق عيد الأضحى"
تدين وتجارة
اليهود بدورهم كانوا يغتاظون من اعتناق بعضهم للإسلام لكنهم لم يكونوا قادرين على إبداء موقفهم الرافض، فلجؤوا للأمثال للتعبير عن ذلك، وقد حدث أن يهوديا أسلم ومات فور إسلامه فأطلقت المخيلة اليهودية مثلا عبرت فيه عن رأيها بطريقة ذكية إن لم نقل متشفية "لا تجمل منه موسى ولا شفع له محمد".
وهناك أمثال تقدر تعظيم اليهود ليوم السبت حتى إنهم يرفضون العمل فيه مع المسلمين ولو كان موافقا لحاجاتهم كالمثل القائل "السبت سبت ولو بين الخمسين"، أي السبت مقدس ولو جاء في الأيام التي تسبق عيد الأضحى.
وقد عرف المسلمون هذا التقديس اليهودي للسبت فصاغوا مثلا يعينهم على معرفة حقيقة دين الغريب "مسلم أو يهودي قال السبت عيبيّن" أي ستظهر الحقيقة يوم السبت عندما لا يستطيع اليهودي أن يخفي حقيقته احتراما لليوم المقدس في ديانته.
الأمثال اليمنية تعترف بشطارة اليهودي في التجارة ومعرفة مواقيت الزراعة، وهو ما يجسده المثل القائل "إذا قد اليهودي محنا اذرا ولا عدت تأنىّ" أي إذا رأيت اليهودي يبدأ في البذر وعلى يده الحناء فتابعه دون تردد.
ويبدو أنه كان من عادات اليهود أن يصبغوا أيديهم بالحناء وقت موسم الزراعة احتفاء به، ومثله: "لا تشتاط إلا بعد يهودي" أي لا تشتر الحبوب إلا بعد أن يشتري اليهودي منه لأن اليهود مشهود لهم بحسن اختيار الأشياء.
وتتضمن الصور إقرارا بخير أو بشيء جميل لليهودي، لكنها تظل تحمل عفويا ذلك الإرث القديم من الشحنات السالبة على غرار المثل الذي عبر به مسلم عن خيبته من حاكمه المسلم الذي قصر في مساعدته وقت الحاجة مقابل امتنانه لجاره اليهودي الغني الذي مد له يد العون بسخاء.. حتى إن المسلم لم يتردد في أن يقول على رؤوس الأشهاد "قلدكم الله.. مَن اليهودي؟"، أو ذلك المسلم الذي رأى امرأة يهودية حسناء فتعلق بها قلبه فلما ذكروه بأنها يهودية لم يتردد في أن يقول "اليهودية أذي -التي- في البيت" أي زوجته.
"وتنقل بعض الأمثال صورة اليهودي البخيل، وأن المال لا يخرج من تحت يده إلا بخروج الروح، وتتجسد هذه الخبرة في مثل "بدا -أي وجبة فطور- من يهودي ولا سفر إلى عدن""
بخيل ومرابٍ:
الوجه الآخر هو الصورة السلبية لليهودي في الأمثال اليمنية، ومن ملامحها جشع اليهودي الباحث عن المال الحرام الكاره للحلال، نجده في هذا المثل اليهودي الخالص: "حيرام نقد ولا بروخا دَين". وحيرام أي حرام، وبروخا أي حلال. فهو يفضل المال المضمون ولو كان حراما على الحلال الذي لا تصل يده إليه.
وتنقل بعض الأمثال صورة اليهودي البخيل، وأن المال لا يخرج من تحت يده إلا بخروج الروح، وتتجسد هذه الخبرة في مثل يقول "بدا -أي وجبة فطور- من يهودي ولا سفر إلى عدن".
وجاء الكتاب موجزا ولم يحط بكل أبعاد الموضوع لأن أسفار الأدب الشعبي اليمني تفيض بكثير من الأمثال عن مختلف جوانب حياة اليهود، وعلاقتهم مع المسلمين في حالات عديدة من الفرح والحزن، وتقاليد أطعمتهم وأفراحهم وحزنهم. ولعل الطبعة القادمة تكون أكثر شمولا وإحاطة.