يومئذ تصدّت الرموز الثقافية والسياسية والفنية في عدن لتلك الدعوات. نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر عبد الله عبد الرزاق باذيب ومحمد فاضل فارع ومحمد مرشد ناجي ولطفي جعفر أمان ومحمد سعيد جرادة وحامد جامع وسعيد عولقي.
الرفض الضمني لمشروع عدن للعدنيين أومأ إلى مزاج عروبي يشمل اليمن وعموم الساحة العربية، وقد انعكس هذا المزاج في تسميات الجبهة القومية وجبهة التحرير، حيث اقترنتا باسم جنوب اليمن حيناً واليمن الجنوبي حيناً آخر، لكن الجبهة القومية سرعان ما حسمت هذا الجدل بتسمية الجمهورية الوليدة باسم (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية)، وبعد سنوات محدودة تغيرت التسمية إلى (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية)، وهذه التمسية الأخيرة كانت تعكس خياراً سياسياً، يعتبر اليمن الديمقراطية الشعبية النموذج الذي سيشمل عموم اليمن بشماله وجنوبه، وقد ترجمت الجبهة القومية هذا الخيار النموذج من خلال خطوتين مهمتين: تمثلت الأولى في الانتقال إلى التنظيم السياسي الموحد، الجبهة القومية والذي شمل فصائل العمل الوطني في عموم الجنوب، كتوطئة للانتقالة الحاسمة صوب (الحزب الاشتراكي اليمني) الممتد في عموم الساحة اليمنية جنوباً وشمالاً، وكانت تلك الخطوات الثابتة الواثقة يتم التعبير عنها بفكرة (وحدة أداة الثورة اليمنية)، ما يعني التمسك بالتغيير، واستهداف نموذج الجمهورية العربية اليمنية في الشمال، وخاصة بعد إجهاض مشروع الشهيد إبراهيم الحمدي.
اليمانيون بحاجة إلى نظرة مستقبلية تتجاوز المنطق الإرادوي المقرون بالاستيهامات والوجدانيات المخاتلة، ومن حقهم البحث عن مخرج للأزمة المستحكمة الماثلة، وإن الرفض المبطن للصيغة الاتحادية من قبل بعض الأطراف هو الدرب السالك للانفصال الذي سيشمل الجنوب والشمال معاً
رفع الحزب الاشتراكي اليمني شعار (لنناضل من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية، وتنفيذ الخطة الخمسية، وتحقيق الوحدة اليمنية)،
ذلك الشعار وتلك الروح قضى عليها نظام علي عبدالله صالح الذي اعتبر الوحدة المقدسة في عقول الناس وأفئدتهم مجرد فرصة سانحة للانتقام من الحزب الاشتراكي، وتعميم المفاسد في جمهورية ما بعد مايو لعام ١٩٩٠.
يحاجج البعض بالقول إن حركة الأحرار التي تشكلت في عدن أيام الإمامة المتوكلية لبيت حميد الدين كانت غير وحدوية، وحجتهم في ذلك أن الحركة لم تضع الوحدة اليمنية كهدف نهائي لكفاحها ضد الإمامة، متناسين أن برنامج الحركة كان برنامجاً إصلاحياً دستورياً، وكان خيارها بعيداً عن التغيير بالقوة، وكانت أولويتها صنعاء باعتبار أن عدن ستنال استقلالها قريباً، وبعدها سيكون لكل حادث حديث، كما يقال.
كانت حرب ١٩٩٤ ترجماناً واقعياً لمشروع الضم والإلحاق، واعتداء صارخاً على خيارات اليمانيين وتوقهم لمجتمع جديد يخلو من الظلم والتفرقة والأوهام، ولقد أفلح صانعو المتاهة في إخراج اليمن عن مساره الطبيعي، فيما أفلحوا في استنفار الجنوبيين وإقناعهم بفداحة ما آلت إليه أحوالهم، لمجرد أنهم كانوا عشاقاً للوحدة.. يرنون ليمن كبير يتأسى بالنظام والقانون الذي ساد جنوب الوطن على عهد التشطير.
هذه الأحلام حوّلها نظام صالح إلى كابوس يتمدد بقوة دفع أخطبوط الخراب والمفاسد العابر لكل القيم، وهكذا وجد الجنوبيون أنفسهم خارج أعمالهم.. تآكلت مدخراتهم، وتمدد الفقر والإملاق في أوساطهم، وأصبح تدوير الحياة الطبيعية في أجندتهم اليومية استحالة دونها الانفجار.
كامل السيناريوهات الميدانية التي تلت حرب ١٩٩٤ خرجت من تضاعيف ذلك الهجوم الظلامي على الوطن والوحدة أثناء تلك الحرب، وكان انفجار الربيع اليماني لعام٢٠١١ لحظة الذروة في المقدمات التي نشأت في مدن الجنوب مع الحراكيين الرافضين لوحدة مايو واستتباعاتها الباهظة على الأرض، وما جرى بعد ذلك من تسوية ملغومة، كشف تماماً تركيبة وطبيعة النظام الأوليغاركي الأبوي الذي أوصل البلاد والعباد للحرب الطاحنة.
اليمانيون بحاجة إلى نظرة مستقبلية تتجاوز المنطق الإرادوي المقرون بالاستيهامات والوجدانيات المخاتلة، ومن حقهم البحث عن مخرج للأزمة المستحكمة الماثلة، وإن الرفض المبطن للصيغة الاتحادية من قبل بعض الأطراف هو الدرب السالك للانفصال الذي سيشمل الجنوب والشمال معاً.
الذين صنعوا ويصنعون الانفصال هم الذين انقلبوا على مثابة الوحدة، وكانوا أقصر قامة منها، ومن غرائب الدهر أن هؤلاء هم أكثر من يلهجون بالوحدة ويتحدثون عن قدسيتها، وكأن الوحدة كائن تجريدي ملائكي لا علاقة له بالبشر وأحوالهم.