الشيء نفسه عندما يحدث أمر عادي وترتفع أصوات أولئك الذين لم يعرف عنهم ذلك.
لفهم هذه المعادلة كما يصورها واقع اليوم, علينا أن نمعن النظر في الأحداث الأخيرة. الأسبوع الماضي كان هناك تحرك شعبي على مستويين. في المستوى الأول خرجت مظاهرات تندد بغلاء الأسعار في أكثر من مدينة أبرزها العاصمة المؤقتة عدن بعد انهيار جديد للريال اليمني ووصوله أمام الدولار الأمريكي إلى حدود غير مسبوقة. بينما في مستوى آخر تحرك ناشطون وصحفيون لتشكيل تحالف لمواجهة فساد الشرعية الذي وصل هو الآخر إلى حدود مرعبة. بينما المنظمات الدولية تحذر من الوضع الإنساني في اليمن والذي أصبح مأساويا، فإن تسريبات إعلامية عن قوائم رواتب المسؤولين الحكوميين تجعل المتابع للشأن اليمني يشك في قدراته العقلية، حتى وان كان هذا هو منطق الفساد فلا يعقل أن يكون سائدا في زمن الحرب ومن قبل من يعتقد أنهم معنيون بالانتصار لليمنيين واستعادة دولتهم. أما الأكثر مدعاة للهزلية فهو استمرار تعيين الأقارب والأصهار في الجهاز الإداري للدولة برواتب خيالية هي الأخرى وبالعملة الصعبة (عندما تصل المأساة إلى حدودها القصوى تتحول إلى هزلية).
أمام هذه الوضع، تحرك الشارع، فالناس لا تحفل كثيرا بالتعيينات ولا يمكنها التدقيق دائما حول صوابية ذلك من عدمه، لكن عندما يصل الأمر إلى لقمة عيشها فهي تعرف خصمها جيدا. أشهر الناس غضبهم، لكن الحكومة المستقوية بالأمر الواقع تجاهلتهم كما هي عادتها، القوى السياسية بدت مرتبكة بدورها ولا تعرف ما إن كان عليها ركب الموجة هذه المرة أيضا؟ تزامن تحرك الشارع مع تحرك لعدد من الصحفيين والناشطين الذين أعلنوا استعدادهم لمجابهة فساد الحكومة بقيم الجمهورية وعبر الطرق القانونية. لكن الرئيس فاجأ الجميع بتعيين حافظ معياد وهو واحد من أشهر رجالات الفساد في عهد صالح ومتورط في قتل شباب الثورة، على رأس لجنة اقتصادية لا يعرف لها مهام.
أمام هذا المستجد خيم إحباط في صفوف الناشطين والصحفيين ولعلهم أدركوا أن الأزمة أعمق مما تصوروها. لهذا ساد صمت رهيب. بينما على مستوى الشارع لا تزال اعتمالات غلاء الأسعار قائمة. لكن في كلا الحالتين هناك أمر أساسي كابح وهو أن هذه التحركات تأخذ قضايا جزئية بمعزل عن السياق العام بينما الحكومة الشرعية تبدو مسترخية لأنها تعرف أن وجودها لا يمكن أن يتزعزع طالما بقي انقلاب الحوثي قائما. لو أن لدينا قوى سياسية تحترم نفسها لكانت هذه التحركات مجدية، فالحلقة المفقودة هي حلقة السياسة. لكن مع بقاء هذا الاستلاب الرهيب أصبح الأمر يتجاوز اللحظة الراهنة ويلقي بظله على المستقبل. كما هو شأن جذور هذه التعاسة التي لها صلات متينة مع الماضي.
قدوم صالح إلى سدة الحكم كان دليلا على مدى ضعف الدولة الوطنية في وجه مختلف أنواع العواصف التي ظلت تهب دون هوادة. لكن الوضع لم يكن حينها قد وصل إلى انسداد كامل كما هو اليوم.
لهذا مثلا يبدو تعيين معياد في منصب كبير هو من قبيل إعادة ترميم مؤتمر صالح وفق وصفة مفادها أنه لا يمكن استنهاض هذا النوع من المؤتمر إلا سلطويا. وهذه وصفة صائبة، لكن يغيب عن بال من يقترحها أن إخراج البلد من وضعها الراهن لن يحدث لمجرد تعافي المؤتمر، كما لن يكون عبر اجترار زمن صالح. فنحن في خاتمة مرحلة طويلة لم يعد من مهام لها سوى دفن الموتى ولو من خلال استمرار عمل هذه التعاسة التي تبديها الحكومة الشرعية والأحزاب.
عندما نحاول فهم سر هذه التعاسة التي تتحكم بالمشهد العام وبرجالات الدولة وحتى بالأحزاب والنخب لابد من فهم السياق الذي أورثنا هذه التركة الثقيلة والمكلفة.
بالتأكيد هذا السياق هو سياق زمن صالح الممتد لقرابة أربعة عقود. لكن في الأساس سياق التحولات الراكدة. بمعنى أنها كانت تحولات بطيئة وبلا خضات من أي نوع, وكأنها بداية دورة تحلل كاملة شارفت الآن على الانتهاء.
قدوم صالح إلى سدة الحكم كان دليلا على مدى ضعف الدولة الوطنية في وجه مختلف أنواع العواصف التي ظلت تهب دون هوادة. لكن الوضع لم يكن حينها قد وصل إلى انسداد كامل كما هو اليوم. هذه في الأصل، مجرد نتيجة، لوضع كانت سمته البارزة الإنهاك وتحطم الأحلام في صف الثوريين والحالمين بالمستقبل. وبالمقابل وجود تكالب مركب محلي عبر البنى التقليدية التي استفادت من ظروف الحرب الباردة, وإقليمي من فورة النفط وعالمي كان يشهر الديمقراطية في يد كأحد لوازم الحرب الباردة وفي اليد الأخرى يعمد السياسات التي ستضمن للشركات والمؤسسات المالية الكبرى الهيمنة وستجعل من الحكومات مجردة إلا من المطامح التافهة. سياسات الإفقار والتهميش.
لعل ما يقلق في وضعنا الحالي هو ذلك السؤال المطروح: ماذا لو أن الظروف تهيأت من جديد ليصعد شخص كصالح أو على الأقل منظومة أخرى كمنظومته؟
بالطبع هذا سؤال مشروع وهناك أساس له في الواقع كما هو الحال مع أساس انبثاق مشاريع جادة. لكن الإجابة عليه تفترض إعادة فهم ظروف ما قبل صالح. وهي تتلخص بالآتي:
بعد صراع طويل بين جدلية الخبرة والأحلام، جدلية التطلعات وما تحتاجه من قدرات، كان أخيرا قد وجد أساس لبناء جهاز بيروقراطي، كانت قد تراكمت قدرات إدارية وفنية بالحد المعقول، لولا أن ذلك حدث بالتزامن مع انهيار المشاريع السياسية. لهذا من قبلوا العمل مع صالح كانوا قد أصبحوا مسوخا بكل ما تعنيه هذه الكلمة وهؤلاء المسوخ هم من يحكموننا اليوم. انخلعوا عن أحلامهم ولم يصمدوا أمام الزمن أو كانوا قد قدموا من معسكر الأعداء ليقوموا بدورهم على أكمل وجه.
كان هذا الجهاز هو من أتاح لرجل عصابة كصالح أن يصبح رئيسا للدولة. فهو اعتمد على تلك الكوادر التي تخلقت من رحم الصراع المحموم بين الجمهورية وأعدائها. وقبل ذلك بالاستفادة من الوضع الثوري الذي كان قد عم المنطقة العربية برمتها. لكنه اصبح جهازا مدمجا وفي زمن تراجع ثوري وسيادة الانحطاط.
عندما نحاول فهم سر هذه التعاسة التي تتحكم بالمشهد العام وبرجالات الدولة وحتى بالأحزاب والنخب لابد من فهم السياق الذي أورثنا هذه التركة الثقيلة والمكلفة. بالتأكيد هذا السياق هو سياق زمن صالح الممتد لقرابة أربعة عقود.
ولعل النهاية المأساوية لصالح تلخص طبيعة المشروع الذي جاء على رأسه والذي هو في الأساس مناقض لفكرة الدولة. حيث قتل على يد مسلحين من خارجها ظل يستخدمهم تحت عناوين مختلفة لقتل ما تبقى من رمزيتها
اليوم لا يوجد أساس حقيقي لينهض عليه مشروع جديد سواء أكان وطنيا أو استبداديا. صحيح أن الحراك الشعبي متواصل لكنه يعاني هو الآخر من انعدام الثقة وعدم اكتمال شروط التأسيس لبديل جذري. لدينا هذه التركة الرخوة والتي أصبحت مصدر كل تعاسة.
ما يمكن أن يقال في النهاية هو أن أحلام الدولة الوطنية القديمة في طريقها إلى المقبرة هي وكل ما علق بها أو واكبها. لقد ورث الأعداء القدماء الجدد نصيبهم بينما القوى الشعبية لم ترث شيئا يعينها على المجابهة لكن لديها المستقبل وعليها أن تدرس خياراتها.
فلا مجال لإيقاف انهيار العملة وأصبحنا نشك في قدرة الحكومة الشرعية وحلفائها على هزيمة الانقلاب واستعادة الدولة، لكن من الممكن ومن المشروع جدا التفكير والعمل الجدي لتجاوز هذا الوضع برمته مرة وإلى الأبد.