والآن، تعيد الكرة مجموعة جديدة، تُحاول أن تقدّم نفسها بوجهٍ مختلف عن ذاك الذي ظهر به البشير والترابي، حين انقلبا في عام 1989 على الحكومة المنتخبة برئاسة الصادق المهدي، وقدّما الحكم الجديد باسم "ثورة الإنقاذ" الذي تقوده جماعة الإخوان المسلمين بقيادة الترابي.
وأتقن الرجلان اللعبة عندما توزعا الأدوار، حيث جلس البشير على كرسي الحكم، والترابي في السجن، وانطلت اللعبة على الناس مدة. والطريف أن البشير الذي ذاق حلاوة الحكم منفردا رمى حليفه الترابي نهائيا، واستأثر بالسلطة، وبدأ يغيّر جلده السياسي حسب المناسبات والفصول وجهات الدعم، وها هو السودان يشهد فصلا جديدا من اللعب بأوراقٍ بدأ المخفي منها يظهر تدريجيا.
يبدو أن السودان رهن صراع مراكز القوى في الجيش. وظهر ذلك في الأيام الأولى للانقلاب على عمر البشير في 11 إبريل الحالي. وخلال أقل من أسبوع، تبدل المشهد مرتين. في الأولى، أعلنت مجموعة عسكرية وضع يدها على السلطة، بعد أن أعفت البشير من مهامه، ولم تمض 24 ساعة، حتى أزاحت مجموعة عسكرية ثانية المجموعة الأولى، وجلست في مكانها، وقدّمت نفسها على نحوٍ مختلف عن الأولى التي أعلنت الطوارئ ومنع التجول.
بات الجيش السوداني اليوم على المحكّ، فإما أن ينحاز إلى الروحية التي يمثلها سوار الذهب، ويسير بالبلاد إلى عودة التجربة الديمقراطية، أو يرجع بها إلى أساليب نميري والبشير، ويقودها إلى مرحلة استنزافٍ جديدة
وبسرعةٍ، ألغت المجموعة الثانية كل القرارات التي صدرت عن الأولى، مبديةً انفتاحا على مطالب الحراك السلمي الذي انطلق في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ولكنها عادت إلى التشدّد بعد 24 ساعة، وحاولت فض الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش في الخرطوم، كونه يشكل قوة ضغط، ولعب الدور الأساسي في حرف مجرى الحدث السوداني منذ يوم 6 إبريل/ نيسان الحالي، عندما بدأت تظهر بوادر تعاطف من بعض العسكريين من رتب متوسطة ودنيا مع الحراك الشعبي.
وعلى الرغم من أن الشارع السوداني أحس بخيبة أمل، بسبب إعلان عوض بن عوف حالة الطوارئ بعد الانقلاب على البشير، فإنه أبدى تفاؤلا بالمجموعة الثانية التي ضمّت وجوها من العسكر المحترفين غير المعروف عنهم ارتباطات فساد، أو ممارسات قمعية، مثل رئيس المجلس عبد الفتاح البرهان. ويبدو أن لتفاؤل الشارع السوداني ما يبرّره، بفضل قدرة الحراك الشعبي على إحباط مفعول القبضة الأمنية بالتدريج، وتشكيل مركز ضغط، لا يمكن للعسكر تجاوزه بسهولة.
ومن ناحيةٍ أخرى، ليست تجربة السودان مع العسكر كلها من لون واحد، كما هو شأن أغلبية البلدان العربية، فهناك محطاتٌ انحاز فيها الجيش إلى جانب الشعب، كما حصل بعد الانتفاضة على حكم الرئيس الأسبق، جعفر نميري، في عام 1985، وساعد الشارع على إسقاط حكم نميري، ولم يتمسّك بالسطة، وقام الفريق عبد الرحمن سوار الذهب بتسليمها إلى حكومة مدنية منتخبة في غضون عام، واعتزل السياسة والحكم، ليقدم مثالا عن النزاهة والديمقراطية، على عكس سلفه نميري الذي وصل إلى السلطة بعد عدة محاولات انقلابية، ولم ينزل عن كرسي الحكم إلا بعد أن أطاحته الانتفاضة الشعبية، بدعم من سوار الذهب الذي كان يتولى قيادة الجيش في حينه.
بات الجيش السوداني اليوم على المحكّ، فإما أن ينحاز إلى الروحية التي يمثلها سوار الذهب، ويسير بالبلاد إلى عودة التجربة الديمقراطية، أو يرجع بها إلى أساليب نميري والبشير، ويقودها إلى مرحلة استنزافٍ جديدة، لم تعد قادرة على تحملها، بعدما أنهكها البشير بالصراعات الداخلية والحروب. ويظهر في صلب المشهد السوداني الراهن اللاعبان الإماراتي والسعودي، وهما يعملان، في صورة علنية، على حرف مسار الحراك الشعبي، وتحويله في اتجاهٍ بعيدٍ عن أهدافه، ولكن وعي الشارع السوداني يشكل سدا مانعا أمام التدخلات الخارجية.