الأحداث التي عشناها خلال السنوات الثمان الماضية، ما هي إلا دليل آخر على نوع المهمة التي تنتظر الأجيال الجديدة. فإذا كانت حاجة الانتقال إلى مستقبل مختلف كليا ملحة ولا مناص منها، فإنها ستبقى غير ممكنة، طالما لم تبدأ مهمة حلحلة التركة الثقيلة التي خلفتها أنظمة الاستبداد والعمالة.
الوعي السائد لا يزال هو نفسه الوعي الذي تكرس خلال عقود طويلة، باستثناء أن الثورات العربية طرحت لأول مرة امكانية حقيقية لاختراقه وخلخلته تمهيدا لاستبداله بوعي جديد.
كانت ثورات الربيع العربي أيضا قد أعادت طرح مأزق الشعوب العربية على نحو واقعي، ومهما بدا أنه مأزق مركب، إلا أنه في متناول من يريد دراسته وفهمه.
لابد أن مسارات خاطئة وإخفاقات هي من منحت هذا الوضع الذي نعيشه اليوم، شرعية الوجود، وحان الوقت لإعادة فهم كل ذلك من منظور ثوري، حتى لا يبدو وكأننا شعوب تبرع في الدوران داخل حلقة مفرغة.
حركة الجماهير لم تهدأ ـ كما بتنا نشاهد ـ لا تزال مشتعلة في كل البلدان العربية بطريقة أو بآخرى، وهذا يعني قابلية هذه الجماهير للتجاوب مع أي خطاب سياسي جديد يعبر عن مصالحها ويكسبها الوعي المطابق لها.
تقدم ثورة التكنولوجية اليوم ميزات لم تكن متوفرة حتى وقت قريب، وهي ميزات تختصر الزمن لو أن هناك خيال سياسي منفتح يستطيع الإفادة منها من أجل الوصول إلى الجماهير بعد فهم حاجتها وما ينقصها للظفر بالخلاص.
غير أن العمل السياسي الذي ساد في ظل الأنظمة البوليسية والمستبدة، هو بمعنى ما جزء من المأزق الذي على شعوب المنطقة مجابهته وتجاوزه. فكل الأحزاب والحركات السياسية بلا خيال، ومنظورها إصلاحي لا يختلف كثيرا عن منظور الأنظمة لولا أن هذه الأخيرة أصبحت تنتصب على جبال من الجثث والدماء وأيضا الأموال المسروقة.
الوعي السائد لا يزال هو نفسه الوعي الذي تكرس خلال عقود طويلة، باستثناء أن الثورات العربية طرحت لأول مرة امكانية حقيقية لاختراقه وخلخلته تمهيدا لاستبداله بوعي جديد.
إذن لا مناص اليوم من إيجاد تيارات سياسية جديدة تؤمن بجدوى ما تقوم به، وتضع قطيعة مع الإرث السياسي المشوه الذي ترسخ في ظل أنظمة الاستبداد والقهر والارتهان للخارج.
ولعل أول مهمة في إيجاد مثل هذه التيارات هو العودة لقراءة التاريخ القريب والإخفاقات التي رافقت مسيرة التحرر منذ لحظة انبثاق المشروع العربي وحتى لحظة انتكاسه وتفسخه.
اذا كانت المشكلة واحدة وذات خصائص مشتركة كما تؤكد الانتفاضات التي تندلع تباعا، فإن المصير سيكون مشتركا، وبدون فهم الماضي لا يمكن الحديث عن المستقبل، لأن فهم الماضي هو جزء من فهم الواقع الذي تأسس عليه، وفهم الواقع مقدمة أساسية وضرورية من أجل تغييره.
يبدو لمن يتابع الوضع في الدول العربية التي لا تزال شعوبها تجابه، يبدو واضحا أن ثمة تيارات سياسية غير قادرة على التبلور بصيغة نهائية وملموسة، لكن ملمحها المشرق هو ذلك الوعي الذي أصبح سائدا عند قطاعات شعبية واسعة أبرزها فئة الشباب التي آخذت تبني وعيا جديدا، من خلال عملية "نبش" لتركة الاستبداد وإرث حركات التحرر الوطني.
هذه العودة لقراءة الماضي القريب، وهذا الحس النقدي الذي يتبدى على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الكتابات المنشورة بمختلف وسائل الإعلام العربية، لا يحمل أي ردة أو انتكاس كما قد يفهم البعض، لكن لأن الثورات المضادة تحالفت مع قوى رجعية وما قبل وطنية، فقد كان من الطبيعي أن يعاد فهم الماضي القريب وحتى البعيد، كون ذلك يشكل جزء من عدة المجابهة إلى جانب أن الأجيال الجديدة كان قد تم فصلها بطريقة ممنهجة عن تلك المحطات المشرقة التي يمكن العودة إليها والبناء على تجاربها بعد فهمها وتجاوز عثراتها.
لسنوات طويلة ظل التاريخ هو تاريخ الزعيم الأوحد، والثورة هي أحد منتجاته الخارقة، أما نتائجها فكان الاستبداد ورهن مصير الشعوب بيد المستعمر الجديد ليتكلل هذا كله بحفلة توريث أنيقة. وإلا فإن الجحيم هو البديل الذي تطرحه هذه الأنظمة.
ويبدو أنه حان الوقت لمناقضتها في هذه الجزئية أيضا، أعني التفكير ببديل لا يكون جحيما ولا مصنوعا من قبل تلك الأنظمة. أما المدخل فهو الدراسة والفهم.