هذه مسألة لها أساس ولا يفترض ان تكون عامل احباط. عندما اندلعت الثورة اندلعت بعد عقدين من ركود السياسة على مستوى العالم أجمع, وبعد أربعة عقود من انهيار مشروع الدولة العربية وخمسة عقود من اهتزاز ثقة العرب بأحلامهم وبانفسهم كأمة من حقها ان تنافس ويكون لها دور معتبر بين الأمم.
اعني منذ نكسة حزيران.
يمكنكم فقط الامعان في مشهد السياسة في اليمن منذ عام 94 وحتى اندلاع ثورة فبراير. وسط هذا المشهد لن نجد شيء يعيننا على امتلاك أبسط الأسلحة التي نحتاجها في معركة مفتوحة بذلك الحجم.
ليس فقط مشهد السياسة لكن أيضا الاقتصاد حيث انهار الاقتصاد الوطني وأصبحت البلد مفتوحة أمام كل الطفيليين وناهبي الثروات. وللاقتصاد دور مهم في السياسة. فمع غياب الأحزاب وغياب الثقافة السياسية كان من الطبيعي ان تنفجر ثورة شعبية ثم تفشل في ايجاد البديل.
مثلا بدلا عن المناضل السياسي حضر ناشط المنظمات غير الحكومية بما هي من أدوات لتخريب بيئة العمل السياسي. وبدلا من المفكر والمثقف تسيد الصحفي الفهلوي.
ولادراك خطورة هذا الأمر علينا ان نعرف ان النجاح البسيط الذي تحقق مع ثورات التحرر الوطني منتصف القرن العشرين كان قد سبقه عمل فكري وثقافي كبير.
بدأ منذ مطلع القرن وتكثف بعد الحرب العالمية الأولى وبالاستفادة كان سقوط الامبراطورية العثمانية ثم جاءت الحرب العالمية الثانية وفتحت المجال اكثر امام توسع الفعل النضالي وارتباط العمل الفكري والثقافي بالعمل الشعبي.
بدأ منذ مطلع القرن وتكثف بعد الحرب العالمية الأولى وبالاستفادة كان سقوط الامبراطورية العثمانية ثم جاءت الحرب العالمية الثانية وفتحت المجال اكثر امام توسع الفعل النضالي وارتباط العمل الفكري والثقافي بالعمل الشعبي.
في مطلع الخمسينات كان باذيب وثلة من المثقفين قد بدأوا التأسيس لثورتي سبتمبر واكتوبر.
الثورات لم توقظ كل الارث الثقيل فقط, هذه التقرحات التي نشهدها اليوم, هي من صلب عمل الثورات. لا يمكن الانتقال للمستقبل طالما الماضي لا يزال مهيمنا على أدمغتنا وطريقة تفكيرنا
عند النظر لهذا الأمر ومقارنته بوضعنا قبل ثورات الربيع العربي سوف نصل إلى حقيقة مفادها انها كانت ثورات بلا أي اساس نظري تحتاجه. حتى المفكرين الذين ظهروا على الساحة العربية كانت معركتهم تصور على انها لأجل المدنية والديمقراطية وحقوق الانسان. اي تقسيم المجتمع وفرزه على اساس صراع ديني ومدني. وهذا صراع مختلق في بلدان لا توجد فيها دولة بالمعنى الحقيقي واكثر من نصف سكانها تحت خط الفقر.
ليس هذا فقط. لكن ايضا انهيار منظومة التعليم, تسيد الوهابية والنزعات المتطرفة...الخ
لهذا لحظة اندلاع ثورة فبراير كانت كما هو حال ثورات الربيع العربي, لحظة تأسيسية بامتياز. أما التطور الذي شهده العالم منذ منتصف القرن العشرين وحتى اليوم فيكاد يتفوق على التطور الذي شهدته البشرية طوال تاريخها.
الأمر اذا يتعلق في القدرة على هضم المعارف التي وجدت في عصر الركود ويبدو وكأنها معارف نائية وغير متصلة بحياة الانسان. استيعاب هذه المعارف هو مقدمة ضرورية لامتلاك وعي حداثي. وربط هذه المعارف بالواقع والنضال هو المدخل الأساسي لانتصار الثورات.
الثورات لم توقظ كل الارث الثقيل فقط, هذه التقرحات التي نشهدها اليوم, هي من صلب عمل الثورات. لا يمكن الانتقال للمستقبل طالما الماضي لا يزال مهيمنا على أدمغتنا وطريقة تفكيرنا. من الضروري تصفية الحساب مع هذا الماضي. ولأن الثورات بحق قاطرات التاريخ على حد وصف ماركس, فهي قد امدتنا بالطاقة الكافية للمجابهة. فتحت وعينا على ما ينقصنا وما يجب القيام به. بدون الثورة لم نكن لندرك ذلك. ان الثورة هي أعظم عملية ايقاظ جماعي عرفتها الشعوب.
اليوم أمام توحش الواقع وأمام هذه التناقضات التي أصبحت تتحكم بحياتنا, الخيار ليس في الاستسلام او الانجراف, الخيار في الاستعداد الجدي للقادم. لأن هذا واقع انتقالي وعابر. لقد عشنا اللحظة الحقيقية, وعلينا أن نثق انه بوسعنا أن نعيش نتائج تلك اللحظة الفارقة.