لكن لم تعد تلك المدينة التي تحتفظ بكامل بهائها، هذا ما يشاهده الزائر إليها مؤخراً، حيث يطغى على المدينة تلك الألوان المستفزة للعين، والمخالفات المعمارية التي انتشرت بشكل لافت، والتي أظهرت المدينة التأريخية الأنيقة بشكل غير لائق، وجعلها ضمن المدن المهددة بالإلغاء من قائمة اليونسكو للتراث الإنساني.
ولم تسلم المدينة من الدمار بمقاتلات التحالف العربي الذي تقوده السعودية والإمارات، حيث تحول مكان القصف بعد عامين إلى مساحة فارغة شكلت نشازا في مظهر المدينة المزدحمة ببيوتها الشاهقة والقريبة من بعضها بمسافات لا تتجاوز المتر مربع، وفي بعض الأحياء متقاربة حد التلاصق، والتي تشكل لوحة فنية مبهجة للزائرين.
حي القاسمية
في الوقت الذي تعرضت "صنعاء القديمة" لإهمال كبير من قبل السلطات خلال العشر السنوات الماضية، تعرضت خلال الحرب إلى قصف جوي من قبل مقاتلات التحالف العربي في 12 يونيو/ حزيران 2015، وأسفر عن تدمير عدد من المنازل القديمة وأضرار بالغة تعرضت لها المنازل المجاورة، بالإضافة إلى خسائر بشرية.
واستهدف القصف منازل "حي القاسمية" الذي يحوي بيوت جميلة وشاهقة البنيان تصل بعضها إلى سبعة طوابق، بالإضافة إلى حدائق يطلق عليها "مقاشم" من قبل السكان والتي تقع بالقرب من "السائلة"، وحينها قالت المديرة العامة لليونسكو، إيرينا بوكوفا "إنني متأثرة كل التأثر للخسائر في الأرواح وللتدمير الذي لحق بواحدة من أقدم جواهر الحضارة الإسلامية، ولقد أصبت بصدمة جراء صور المنازل الرائعة البرجية ذات العديد من الأدوار والحدائق الهادئة التي نالها التدمير".
وفي زيارة ميدانية لـ "بلقيس" بعد أربع سنوات من قصف التحالف بدا مظهر الحي "نشازا" عن المدينة حيث تم نقل مخلفات المنازل التي تم هدمها خلال العام الماضي، وتم تسوية مواقع المنازل في الأرض، وترميم المنازل المجاورة من قبل مالكيها.
دائرة الخطر
في 2 يوليو/ تموز 2015 أعلنت اليونسكو – أي بعد 20 يوم فقط من قصف التحالف - تم إدراج مدينة صنعاء القديمة ومدينة شبام بحضرموت (شرق اليمن) وسورها، ضمن قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر، بعد ان تم إدراج المدينة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي عام 1986.
وسبق لليونسكو أن هددت بشطب المدينة من القائمة قبل الحرب، وفي العام 2013 أمهلت الحكومة اليمنية فرصة لإبقاء صنعاء القديمة في قائمة التراث العالمي مقابل إزالة المخالفات والاستحداثات المشوهة للمدينة ومبانيها الأثرية، والتي تتنافر مع نسقها المعماري.
وتعاني صنعاء القديمة من تهدم أجزاء من المنازل الذي يزيد عمرها 2500سنة، واستحداثات في البناء العمراني وعدد من المشكلات في عمليات التخلص من المخلفات ومياه الصرف الصحي والتي تعرضت في يناير/ كانون أول من العام الجاري للخراب وطفح مياهها واستمرت نحو شهر قبل أن تتدخل "اليونيسف" لإصلاحها.
استحداثات وشعارات
عمل الحوثيون على تشويه جداران صنعاء القديمة الترابية وزخارفها المعمارية باللون الأخضر الشاذ على ألون المدينة الطوبية ذات العقود البيضاء المزخرفة والقمريات الملونة، حيث عملوا على كتابة شعارتهم بالطلاء على جدران المنازل التأريخية وسور المدينة، بشكل مكثف بالإضافة إلى صور قتلاهم وشعارتهم المنتشرة في كل احياء المدينة.
"حسين حمود" رجل ستيني يقطن في مدينة صنعاء يتحسر على المدينة التي تدهورت بشكل كبير، وقال "إن كثير من الساكنين الدخلاء في المدينة لا يعرفون أهمية الحفاظ على المدينة، حيث يعلمون إنشاءات مخالفة للبنيان، وزادت الحرب على ذلك أن جعلت المدينة ساحة صراع".
وأضاف في حديث لـ"بلقيس" اللون الأخضر وشعارات الحوثيين شوهت المدينة بشكل كبير، والتي كانت خالية من أي شعارات سياسية او مذهبية، حتى في الدعاية الانتخابية كان تمنع الشعارات والصور من قبل البلدية إلا بضوابط محددة لا تضر بمنظر المدينة.
ممارسات كارثية
وخلال تجول "بلقيس" في المدينة سألنا كثير من المواطنين عن المباني المخالفة وتحدث معظمهم "أن غالبية تلك المخالفات لنافذين ورجال أعمال لهم علاقة بالسلطات الحاكمة، خلال العشر السنوات الماضية" وبعضهم تلاشى الأمر بالالتزام في النسق المعماري في بقية الطوابق غير أن البناء المخالف بدا مستفزاً وغير لائق بالمدينة التأريخية.
في حين تحدث سكان عن ممارسات كارثية تتم في مباني مدينة صنعاء القديمة، في عملية حفريات داخل المنازل مما يهددها بالانهيار، أو تخريب جدرانها للبحث عن مجوهرات وآثار مدفونة وبيعها لسماسرة ومهربين، وتعد هذه جريمة مركبة بحق المدينة التأريخية.
وما بين المخالفات المعمارية وقصف التحالف، وطلاء الحوثيين لشعارتهم على الجدران، تتعرض "صنعاء القديمة" لعملية تدمير تأريخي ممنهج في ظل التهديدات المتوالية من "اليونسكو" بإخراجها من قائمة التراث العالمي، تبقى المدينة رهينة سطوة الميلشيا التي لا تكترث للحضارة الإنسانية العريقة التي يتفاخر بها اليمنيون منذ آلاف السنين.