وما يجري في اليمن، لا يزال يمثل موضوع نقاش وبحث وسجال في الأوساط السياسية والإعلامية الأميركية، بحكم التطورات الكارثية هناك، ودور الولايات المتحدة التسليحي والعمليات العسكرية التي تنفذها قواتها في اليمن في إطار الحرب ضد تنظيم "القاعدة". وتبرز أهمية أو بالأحرى خطورة الملف اليمني، في ظل توالي التحذيرات التي تطلقها الجهات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان من خطورة انتشار وباء الكوليرا في اليمن الذي أصاب "أكثر من 600 ألف يمني" ويهدد بالمزيد من التفشي وإصابة "الملايين الذين يقفون على حافة المجاعة"، لا سيما الأطفال.
ترامب أبقى على تركة أوباما في الحرب اليمنية، فقط لأنها تتعلق بالسعودية
لكن هذه التهديدات، شأنها شأن المجازر التي تتسبب بسقوط آلاف المدنيين نتيجةً لغارات طيران "التحالف العربي" بقيادة السعودية، لم تلق آذاناً صاغية في واشنطن، خاصةً بعد مجيء الإدارة الجديدة برئاسة دونالد ترامب. وفيما حرص الأخير على محو أثر كافة السياسات والإجراءات التي اعتمدها سلفه، الرئيس باراك أوباما، في ما يتعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة، إلا أن ترامب أبقى على تركة هذا الأخير في الحرب اليمنية، فقط لأنها تتعلق بالسعودية.
وفي هذا الإطار، ارتبطت سياسة أوباما تجاه حرب اليمن بمسار الملف النووي الإيراني. وبينما كان أوباما يتجه لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، كان في نفس الوقت يسعى "لإصلاح العلاقات المتوترة" مع السعودية التي كانت تحذر من مغبة إبرام هذا الاتفاق. وظهر بالتالي موقفه حيال الملف اليمني، لا سيما مضيّه في خيار حرب "التحالف العربي"، من دون أن يضع "فيتو" عليه، وكأنه محاولة لتطمين السعوديين. هكذا، ومن أجل تمرير الاتفاق مع طهران، حاول أوباما إرضاء الرياض من خلال مدّها بالدعم العسكري والاستخباراتي اللازمين، من ذخائر وقنابل ذكية ومعلومات استخباراتية، وتزويد المقاتلات السعودية بالوقود جواً.
وقد لامه كثيرون في الولايات المتحدة على هذه المقايضة. وكان من بين منتقدي أوباما، أعضاء في حزبه "الديمقراطي" في الكونغرس، مثل السناتور كريس مورفي. ومع تعثر الحملة العسكرية لـ"التحالف العربي" في اليمن، وارتفاع الأصوات، في الكونغرس وبعض وسائل الإعلام، تنديداً بتمادي عملية قتل آلاف المدنيين اليمنيين بالقصف الجوي العشوائي، اضطر الرئيس أوباما، عام 2016، إلى القيام بفرض الحظر على الإمدادات العسكرية للسعودية. لكن بعد وصول ترامب بأربعة أشهر إلى البيت الأبيض، قرر الرئيس الجديد الانقلاب على الحظر والعودة إلى سياسة أوباما السابقة. وأبلغ الكونغرس بأنه يعتزم استئناف الدعم وتزويد السعودية بالقنابل الذكية. واعترض قسم من أعضاء مجلس الشيوخ على ذلك، وحاولوا منع الخطوة. لكن ترامب كسب الجولة في النهاية.
صحيح أن اليمن ليس على رأس سلم أولويات الأجندة الدبلوماسية للرئيس ترامب، لكن ذلك لا يفسر وحده استئنافه لتزويد السعودية بالإمدادات العسكرية لمواصلة حربها في اليمن. وما يحكم علاقة إدارة ترامب بالملف اليمني يمكن تفسيره بأمرين: إيران والصفقات العسكرية الثمينة.
علاقة ترامب بالملف اليمني يحكمها ملف إيران والصفقات العسكرية الثمينة
ويشكل موضوع إيران قاسم مشترك بين واشنطن والرياض. لديهما هدف واحد يتمثل في نسف الاتفاق النووي الذي تم توقيعه في يوليو/تموز 2015 بين طهران والمجتمع الدولي. فالإدارة الأميركية قد تتجه بشكل أحادي الجانب، نحو التخلي عن هذا الاتفاق، في الشهر المقبل، عندما يأتي موعد الموافقة أو عدمها على التقييم الفصلي لمدى التزام إيران بشروط تطبيق التزاماتها الدولية. وعلى الرغم من تزايد التحذيرات من قرار كهذا، إلا أن البيت الأبيض يبدو عازماً على الخروج من الاتفاق أو تسليم أمره إلى الكونغرس، وبما يزيد من البلبلة حول مصيره.
من جهة ثانية، يبدو البيت الأبيض حريصاً على إعادة التوازن إلى العلاقات مع السعودية، والتي حكمها التوتر في عهد أوباما. وقد بدأ هذا التحول في العلاقات خلال زيارة ترامب إلى المملكة في الربيع الماضي، إذ يعمل الرئيس على ردّ الاعتبار إلى معادلة قديمة حكمت علاقات بلاده مع السعودية، تتمثل في مقايضة تقوم على تولي الولايات المتحدة ضمان أمن السعودية مقابل توفير الأخيرة للنفط بأسعار معقولة للأسواق العالمية، بحسب قول الخبير في مؤسسة "بروكينغز للدراسات" بواشنطن، بروس رايدال.
هكذا، يستعيد ترامب، وفق رأي رايدال، العمل بخط "اعتمدته الإدارات المتعاقبة التي كان همها الأكبر إقامة علاقات وثيقة مع السعودية حتى ولو كان ثمن ذلك التضحية باليمنيين" المدنيين في الحالة الراهنة. لكنه يحذر من أن المراهنة على الصراع في اليمن الذي بات بمثابة استنزاف بالنسبة للسعودية، "لن تعود بالفائدة سوى على إيران التي تبدو الفائز الأكبر" في هذا النزاع. وفي ضوء هذه المعطيات والوقائع، من المرجح أن تبقى حرب اليمن، حرباً منسيةً ومفتوحةً، مع كل ما يعنيه ذلك من استمرار للمعاناة الإنسانية لليمنيين.