هذا البؤس المعرفي والثقافي كان نتاج طبيعي لعقود من الانحطاط والانهيارات القيمية. لولا ثورة فبراير، لما كنا في اليمن سنعتقد أنه من المهم الحديث عن القراءة كأحد شروط امتلاك الوعي. فالوعي يصبح امتلاكه مهما عندما يكون هناك ظروف مؤاتية تسمح بتغيير الواقع.
ويبدو ان الوعي كان هو الشيء الذي أفتقدته فبراير لنصل الى هذه المآلات. مع ذلك لم تنسى الثورة ان تفتح الباب لاكتسابه.
ويبدو ان الوعي كان هو الشيء الذي أفتقدته فبراير لنصل الى هذه المآلات. مع ذلك لم تنسى الثورة ان تفتح الباب لاكتسابه.
سبب الهوة المعرفية التي تعاني منها الأجيال الجديدة إلى جانب ظروف التخلف التاريخي الذي فشلت الدولة الوطنية في تجاوزه, هو طبيعة النظام السياسي الذي ساد خلال الثلاثة العقود التي سبقت فبراير, وبالتأكيد ظروف الناس المعيشية.
المسألة لم تكن فقط تعبيرا عن طبيعة المرحلة, بل كان هناك توجه رسمي لتمييع الثقافة وتدمير التعليم. فنظام صالح ظل يخشى من دخول الكتب القيمة للبلاد وان توفرت فبأسعار خيالية على حساب تكدس الكتب الصفراء او تلك التي ظلت السعودية تطبعها وتوزعها على العالم تعبيرا عن ايدلوجية دينية متطرفة. ليتم تعزيز هذا النهج بتعليم رديء ظل يتراجع كل يوم. وهي سياسة تجهيل متعمدة لإقامة عزلة بين اليمنيين وعصرهم.
فقد عمد نظام صالح الى محاربة الثقافة بأشكال شتى، ابتداء تغييب الرموز الوطنية وطمس دورهم النضالي والمعرفي وليس انتهاء بتغييب نتاجهم المعرفي والأدبي كما هو الحال مع الشاعر عبدالله البردوني الذي قامت السلطات بمصادرة عدد من كتبه قبل طباعتها ولا تزال ترفض إطلاقها إلى اليوم.
خلال السنوات الأخيرة ظهرت في اليمن مبادرات شبابية عديدة، هدفت إلى الاستفادة من ثورة التكنولوجية واستثمار ما تتيحه من إمكانيات هائلة في مجال نشر المعرفة والوعي، وأبرز هذه المبادرات هي تلك التي بدأ القائمون عليها في تحويل الكتب الورقية إلى كتب إلكترونية حتى يصبح من السهل تداولها على نطاق واسع.
تعد المبادرات الشبابية بمثابة رد اعتبار لعقود من الانحطاط والتراجع كانت قد تحكمت بالمشهد الثقافي والسياسي في البلاد. لكن حتى هذه المبادرات لا تمر بسلام, ولعل هذا يعكس طبيعة الصراع الذي يتجاوز الاجتماعي والسياسي الى الثقافي.
مأزقنا الراهن، كما نفهمه اليوم، وكما عبر عنه أمجد ونشاطه، هو حاجة النضال الى الوعي. ما دفعه للمبادرة مع اصدقائه ومحاولة تنظيم معرضين للكتاب بجهود ذاتية، وذلك خلال النصف الأول من العام 2015.
عندما قتل أمجد عبدالرحمن منتصف مايو من العام 2017 على يد ما يقال أنها جماعة متطرفة في مدينة عدن. فقد كان هذا الشاب الذي لم يتجاوز عمره الثالثة والعشرين لحظة مقتله، واحدا من أوائل من استشعروا مأزقنا الراهن، وقد حاول مع أصدقائه بطرق شتى تكريس أنفسهم من أجل التغلب على هذا المأزق وتجاوزه.
مأزقنا الراهن، كما نفهمه اليوم، وكما عبر عنه أمجد ونشاطه، هو حاجة النضال الى الوعي. ما دفعه للمبادرة مع اصدقائه ومحاولة تنظيم معرضين للكتاب بجهود ذاتية، وذلك خلال النصف الأول من العام 2016. أي خلال تلك الفترة التي أعقبت تحرر مدينة عدن من مليشيات الحوثي وصالح، عندما ظهر وكأنها قد سقطت من جديد في يد جماعات متطرفة، أصبحت تبسط سلطتها وتهيمن على المجتمع وتفرض بأكثر من طريقة ثقافتها الدخيلة على مدينة عرفت بانفتاحها الإنساني واحتضانها للقيم الجديدة.
ولعل أبرز طرقها هذه، كانت قد تمثلت في هدم الأضرحة والمعالم التاريخية في عدن بل وحتى المساجد التابعة للصوفيين (تعد الصوفية الطائفة الدينية الوحيدة الأصيلة في عدن) ثم محاربة أي نشاط ثقافي أو معرفي يبرز.
سعت معارض الكتاب التي نظمها أمجد وأصدقائه، وأيضا مجمل الفعاليات التي نظموها عبر ناديهم الثقافي (نادي الناصية) إلى لفت انتباه الجيل الجديد، إلى أهمية مقاومة واقع سوداوي آخذ يتشكل برعب وذلك من خلال إشاعة روح النضال المعرفي الدؤوب والانتصار لقيم الانفتاح والتعايش.
لم يتوقف نشاطهم هذا وادراكهم بأهمية ما يقومون به، حتى بعد أن سقط عمر باطويل وهو شاب كان قد آخذ يمثل رمزية للنزوع الجديد نحو المعرفة والوعي وهو النزوع الذي كان قد آخذ يتبلور بين شباب عدن. كما لم يثنيهم عن المواصلة محاولة اغتيال شاب آخر يدعى محمد علي برصاصات كاتمة للصوت.
لكن جريمة قتل أمجد كانت قد هزت وجدان كل من عرف تفاصيل الجريمة وما الذي تعنيه بالنظر إلى ما كان يمثله هذا الشاب.
لكن جريمة قتل أمجد كانت قد هزت وجدان كل من عرف تفاصيل الجريمة وما الذي تعنيه بالنظر إلى ما كان يمثله هذا الشاب.
من بين الأشياء التي لفتت انتباهنا في شخصية أمجد أنه كان حريصا على نشر المعرفة بين الناس. يبدو أنه كان حائرا مثلنا, ولم يجد من طريقة لمواجهة القتامة ومشاريع التخلف التي تحاول أن تسود وتهيمن على المجال العام سوى تلك المتعلقة بالبدء من أبعد نقطة ممكنة.
وهذه النقطة هي دعوة الناس للقراءة وتوفير الكتب لهم. لقد عرفنا من أصدقاء أمجد أنه لم يكن حريصا فقط على تنظيم معارض للكتاب مع اصدقائة وتوفيرها بمبالغ رمزية, بل أيضا تصويرها وتحميلها في أقراص ثم توزيعها على كل من قد يرغب في القراءة. كما بات يفعل فريق موقع "أرشيف اليمن" في الوقت الحالي.
علينا التفكير بعقلية شاب من جيلنا, لكنه يفوقنا من حيث استشعاره بحجم مأزقنا, بل استشعاره بحدود معركتنا الواسعة والتي يمثل مسألة الانتصار على الوعي الزائف أحد أبرز ملامحها. على الأقل من خلال تكريس عادة القراءة, واستقطاب الاهتمام الذي تثيره الأوضاع العامة إلى داخل دائرة المعركة بدلا من بقائه على الأطراف. أسيرا للغنائية والحماس الطارئ.