كان تأثيره طاغيا ومنسجما مع روح اللحظة التي يعيشها البلد، لهذا تجاوز الأمر أصدقائه، وأصبح يمس كل من يعرف قصة مقتله وما الذي كان يمثله من قيمة نضالية ومعرفية في زمن رديء كهذا. هؤلاء وكل الذين سيعرفون شيئا عن أمجد في المستقبل، لن يسعهم سوى اجترار تنهيدة عميقة واستشعار الكثير من الحسرة. فخسارة شاب كهذا، ليست من النوع الذي يمكن تعويضها.
لقد كان أحد تلك الورود التي بدأت تتفتح في مشتل المستقبل الذي طال انتظاره. أو هذا ما ستخبرنا به بعض ملامح قصته وبعض الحقائق المتصلة بجريمة مقتله على يد من يقال أنهم متطرفون في عدن.
تبدأ القصة من الوضع القاتم الذي خلفته الحرب في عدن بعد اندحار قوات الحوثي وصالح منها ومن أغلب مدن ومحافظات الجنوب. فبدلا من أن تتنفس عدن هواء الحرية المنعش كاستحقاق مشروع بعد استبسال أبنائها ونجاحهم في طرد العدو، بدأ وكأن عدن قد سقطت مرة أخرى في يد جماعات دينية متطرفة كانت حاضرة على هامش المعركة فتحصلت على سلاح وأموال وما بدا أنه دعم سياسي غير مسبوق. هذه الجماعات أصبح من الواضح أنه يراد لها أن تحل بديلا عن القيم الثقافية والسياسية التي عرفتها عدن في مراحل مختلفة.
أي شخص سوف يعيش في عدن خلال هذه الفترة، سيرى المدينة التي ظلت حتى وقت قريب رائدة في احتضان القيم الجديدة وفي الانتصار لها، كيف أن كل ذلك أصبح يتسرب نحو المجهول.
غير أن القائمين على وضع عدن الجديد ومتعهدي رعايته، كانوا يدركون بطريقة ما أنه وضع طارئ ولا يمكن له الاستمرار. وبينما ظلوا يجتهدون في القفز على حقيقة صلبة من هذا النوع، ظهر أمجد وبعض رفاقه كأحد الأدلة التي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن مدينة كعدن، لديها وجدان حضاري وإنساني طاغي، قدرها بالرغم من كل شيء هو الانتماء للمستقبل. أو هذا ما يمكن لشاب كأمجد الإيمان به والعمل لأجله دون هوادة.
يقول أصدقائه: كان وضع عدن الجديد ومصيرها هو الشغل الشاغل لأمجد. وقد أراد الانتصار للمدينة التي عشقها، وقد استطاع أن يجذب الكثيرين للعمل معه من أجل إعادة عدن إلى تاريخها الأصيل.
لكن موجة السلفنة التي أرادت إغراق عدن وطبعها بطابعها، كان واضحا أنها معززة بالمال والسلاح كما بمتعهدي رعاية من كل نوع، وبكثير من الإحباط المخيم في أوساط الفئات الفقيرة والتي لم يحمل لها انتصار عدن أي شيء، باستثناء أنهم أصبحوا أكثر انعزالا وعرضه للاستقطاب من قبل هذه الجماعات الجديدة.
حتى ذلك الحين لم تكن الجريمة التي تستهدف شباب عدن المتنور والحيوي قد امتلكت من السفور كما سيظهر مع ارتكاب جريمة اغتيال الشاب أمجد عبدالرحمن.
رغم ذلك، أطلت عدن برأسها من بين ركام الحرب كعنقاء، وبدأت قيم الحياة تتدفق من خلال نشاط معرفي وثقافي محموم، آخذ يتطور ويقترب من المجال السياسي أيضا، ويعتمد على المبادرة الذاتية في المقام الأول.
خلال تلك الأشهر التي لحقت تحرر مدينة عدن من عصابات الحوثي وصالح، وبينما هذا هو واقع الحال وشكل الصراع الجديد، سقط عمر باطويل بما يمثله من رمزية فتية بالنسبة لشباب عدن المتطلع.
كان عمر الضحية الأولى التي سيتم اختيارها بعناية من قبل متطرفين ينتمون للقبح الطارئ وغير الطارئ تماما، فعلى مدى عقدين من الزمن كان قد تم تهيئة الأجواء لتصبح عدن بهذا الشكل، عبر سياسة ممنهجة، ليأتي اقتحامها من قبل تحالف الثورة المضادة فقط ليضع اللمسات الأخيرة على المخطط الذي سيتكفل بالإجهاز على ما تبقى لهذه المدينة من إرادة في الحياة. أو هكذا يعتقد القتلة.
ورغم فداحة الخسارة، إلا أن إرادة التحدي أصبحت اتجاها إجباريا بالنسبة لشباب عدن الذين استشعروا حجم المأزق. رصاصات أخرى من مسدس كاتم صوت، كادت أن تودي بحياة شاب آخر هو محمد علي طعبوش، فكان هذا شاهدا حيا على نوع وحدود المعركة التي جرى الترتيب لها سلفا ليقتصر الأمر بعد ذلك على مجرد ضم ضحايا جدد لها. أما ذنب هؤلاء الشباب (تجاوزوا سن العشرين للتو) فهو أنهم يرفضون الانصياع للوضع الجديد الذي أصبح العمل على تثبيته جاريا على قدم وساق.
حتى ذلك الحين لم تكن الجريمة التي تستهدف شباب عدن المتنور والحيوي قد امتلكت من السفور كما سيظهر مع ارتكاب جريمة اغتيال الشاب أمجد عبدالرحمن.
ذلك الشاب النحيل، بأخلاقه المتواضعة وتفانيه وأيضا أيمانه بجدوى ما يقوم به، كان قد أستطاع مع ثلة من أصدقائه صناعة تهديد حقيقي لتلك الجماعات التي تحاول عبثا أن تتموضع، بل أصبح نشاطهم البسيط، يهدد مشاريع ومخططات من يقفون خلف هذه الجماعات وهي بالمناسبة مجرد أداة جريمة. دورها وظيفي ويتعلق بهذه المرحلة المضطربة، حيث يحاول القديم أن يعيد تثبيت أقدامه من جديد وضمان موقع له في مستقبل هذا البلد. ولأن هذا ليس بالأمر السهل، بعد سلسلة من الموجات الثورية، فإنه يجري استخدام أبشع أدوات الجريمة والإرهاب، في محاولة يائسة لكبح جماح الجديد ومنع تدفق المستقبل.
بالنسبة لمشهد الزخم المعرفي والثقافي الذي أصبحت عدن تشهده، بعد أشهر قليلة من انقشاع الحرب وبقاء غبارها، فإن تحول نوعي وسريع كان قد حدث على يد ثلة من الشباب يتقدمهم أمجد. كانت الخطوة الأولى بتوصلهم إلى نتيجة مفادها أن النشاط الفردي وحده لم يعد مجديا في مواجهة تغول الجماعات السلفية المدعومة خارجيا، فهي أخذت تهدم الأضرحة والمساجد، وتبني كتلها الإسمنتية الضخمة وتفرض ثقافتها الدخيلة على المجتمع بكل السبل.
الاغتيالات، آخذت تنتشر بمجرد تخلص المدينة من شبح الحرب وظلت تطال كل من يحاول الوقوف أمام ثقافة التطرف، في هذه الأثناء يقول تقرير نشر بعد فترة من اغتيال أمجد في مجلة المدينة:"وجد مجموعة من الشباب المثقفون أنفسهم أمام صدمة كبيرة كان لابد لهم من استيعابها و الوقوف أمامها من أجل إيجاد حل ما، وإنْ كان بسيطا".
كان ذلك في نوفمبر من العام 2015، يضيف التقرير الذي يصف جريمة مقتل أمجد بـ"الثمن الباهض": كانت الفكرة الواقفة وراء ذلك هي الإسهام في تطبيع الأوضاع العامة وإنعاش الثقافة المدنية في المدينة وتوجيه رسالة للجميع بأن عدن مازالت منارة للعلم والثقافة. أصبح الإطار الذي سيحتوي نشاطهم منذ ذلك اليوم فصاعدا هو نادي ثقافي اتفقوا على تأسيسه وأطلق عليه أسم نادي "الناصية". كان أمجد هو من أختار اسم النادي ثم أصبح أول رئيسا له. "وتمثلت أولويات هذا النادي في الاهتمام بنشر الوعي الثقافي والمدني ومحاربة الفكر المتطرف".
قبل أن تبدأ الخطوة الأولى، التي هي بمثابة خطوة للخلف، فإن المتاعب كانت قد أخذت تطل برأسها، فشعار النادي الذي هو عبارة عن رسم تعبيري لرجل وامرأة يستندان على بعض وفي يد كل منهما كتابا، سوف يثير حفيظة البعض، حتى أن أحد الداعمين المفترضين - مراعاة لمزاج الجماعات المتطرفة التي أصبحت متغولة في عدن - سيشترط تغيير الشعار، لكن شباب النادي سيرفضون ذلك مستغنين عن الدعم الذي كانوا قد وعدوا به. لقد "قرروا الانطلاق بجهودهم الفردية".
ولأن العمل الجماعي عادة يستطيع أن يطرح المسائل الشائكة على نحو أكثر وضوحا، فإن نشاط هؤلاء الشباب أعضاء النادي الجديد آخذ ينعطف بجراءة باتجاه مساحات هي بالنسبة لمهندسي عدن الجديدة مساحات محظورة وتثير فزعهم.
إذن فكرة إنعاش المشهد الثقافي في مدينة عدن، لم تكن سوى خطوة أخرى، في طريق نضالي آخذ يتضح بالتدريج. وساهمت الفعاليات المختلفة للنادي في اتضاحها أكثر.