احتلت القضية الفلسطينية الصدارة في جدول الأعمال، لكن لا شيء يبعث على الاهتمام أو يدعو للتفاؤل بتحرك عربي يقصد أهدافاً بعينها، فالزعماء العرب تمسكوا بمبادرتهم القديمة المقرة في بيروت، مع أنه في كل الظروف، لا يجب أن يتقدم أحد طرفي الصراع بمبادرة من أي نوع، لأنه يكشف سقف مطالبه، ويفتح شهية خصمه، ويمنحه مجالاً واسعاً للمناورة، وإنما تأتي المبادرات من وسطاء يتبرعون من أنفسهم أو تلزمهم مسؤولياتهم كما هي حال المنظمات الدولية.
القضية الفلسطينية هي ذبيحة الفشل العربي من النكبة إلى الجدار العازل؛ حيث الانتقال من الصلابة والإصرار إلى اللين والتراخي ثم الميوعة والهوان. وعلى الجبهة الأخرى تبدلت التكتيكات «الإسرائيلية» من التلهف للسلام في مرحلة الدولة الوليدة إلى الانقضاض في 67 ثم الاستدراج بعد 73. والانقضاض لم ينجح فيما نجح فيه الاستدراج لضرب القضية الفلسطينية ومعها العمل العربي المشترك. فبعد أربع سنوات من أكتوبر/ تشرين الأول، حمل الرئيس المصري «المنتصر» غصن الزيتون، وذهب إلى القدس يطلب السلام ممن قتلت الأسرى في 67، والمذعورين خلال سنوات حرب الاستنزاف، كما صور الأدب «الإسرائيلي» تلك الفترة بصدق.
أظهرت تلك الانعطافة الخطرة في مسار الصراع العربي -«الإسرائيلي»، أن الجامعة العربية لم تعد بيتاً مشتركاً للأسرة العربية يلتزم أفرادها بما تمليه القواعد والأعراف والتقاليد، فالذي كان ينظر إليه أنه الأخ الأكبر خرج وعصى، وذهب إلى التصالح مع قاتل أخيه بالصورة التي أدانها الشاعر المصري أمل دنقل في قصيدتيه «مقتل كليب» عن الزيارة المشؤومة، و«لا تصالح» عن «كامب ديفيد»، مسقطاً حرب البسوس على واقع سنوات السقوط.
إثارة هذه النقطة من اللزوميات، لأن زيارات القدس، و«كامب ديفيد» وضع جداراً فاصلاً بين صورة ودور الجامعة قبلهما وبعدهما.
قبل «كامب ديفيد» كانت الجامعة تحتوي الخلافات بين أنظمة عربية متناقضة الرؤى والأيديولوجيات والتحالفات الإقليمية والدولية، وللتذليل فقد كانت صورة علاقاتها في الإعلام والدبلوماسية الثنائية قاتمة شديدة البؤس، لكن في المقام الجليل تصفو النفوس، وتتبدى الفروسية في أروع تجلياتها تمحو آثار كل ما سال من الحبر، وما نثر في الأثير من الإساءات والمشاغبات.
قبل «كامب ديفيد» حذرت الجامعة العربية عبد الكريم قاسم من الإقدام على تنفيذ تهديده بغزو الكويت، والتزمت بحماية الدولة المستقلة حديثاً بجيوش عربية، وبعد «كامب ديفيد» أسست الولايات المتحدة تحالفاً دولياً خاض حرب تحرير الكويت، ودخل منها إلى تدمير العراق في خطوت امتدت من الحصار إلى الغزو ونهب الأموال والآثار.
قبل «كامب ديفيد» كانت الجامعة تدرس في القاهرة في أول مؤتمراتها في يناير/ كانون الثاني 1964 الاستباق العربي لنوايا «إسرائيل» تحويل مجرى نهر الأردن، وتناقش في الخرطوم سياسات التصدي للهزيمة، وهناك يتجلى الإخلاص والصدق، ويتراءى أن الخلاف في الرأي هو اختلاف في التقدير، فحين اقترح الرئيس بو مدين قطع إمدادات النفط للدول الغربية، وتردد البعض أتى الرأي الراجح من وزير خارجية الكويت أميرها الآن الشيخ صباح الأحمد الصباح باستمرار بيع النفط، واستثمار عائداته لدعم دول المواجهة ولم يتصلب بو مدين في موقفه. وبعد «كامب ديفيد» لم تستطع الجامعة تدبير الموارد لدعم الفلسطينيين في نضالهم ضد الاستيطان، وتهويد القدس.
بعد «كامب ديفيد» تشعبت الطرق، وتاهت الرؤية، وغابت الأهداف. فالقادة العرب يتحدثون عن خطر إيراني دون أن يتبنوا استراتيجية واضحة لإقناع أصدقاء طهران قبل خصومها، لأن سياستها في المنطقة لا تخدم مصالحهم، وكذلك لم يتخذوا شيئاً ذا بال حيال موضوعي الاستيطان، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
لهذا فإن أصدق ما يقال عن القمة إنها كانت منتدى جميل المظهر لم يعكس روح نظام عربي قابل للحياة. ومنذ أكثر من ثلاثة عقود اقترح مفكرون عرب إصلاح هذا النظام. والظاهر أنه كيان ولى أدباره، وانتهى أجله، بما يوجب تأسيس نظام جديد.
ولكن من ذا الذي يقيمه ؟ هل هي القوة الصماء للتاريخ أم فكر عربي وقاد ؟ ذلك هو السؤال.
الخليج