سخرت جماعة الحوثي الموارد المنهوبة للاحتفال بثلاث سنوات مضت من احتلال ميليشياتها العاصمة في 21 سبتمبر/أيلول 2014، فيما يسدل ستار من التجاهل على ذكرى ثورة 26 سبتمبر التي أطاحت كهنوت الإمامة المتخلف والباغي ووضعت اليمنيين أمام إمكانيات التحرر والتقدم.
إن العاصمة والمدن الواقعة تحت سلطة الكهنة الجدد ضاجة بالصور والشعارات الفاقعة التي تستدعي صراعات صدر الإسلام وتنادي بحق الحكم تنويعاً على خطاب ممجوج ألقاه زعيمهم في 18 ذي الحجة. ذلك لا يثير امتعاض اليمنيين وإنما غضبهم أيضاً لأن رجلاً جاهلاً قليل التحصيل العلمي يختصر ميراث الإنسانية في الفكر السياسي وعلم الاجتماع السياسي وفقه القانون الدستوري في رواية مكذوبة تعطيه حق احتكار السلطة، ولأن هذا الجهل المطبق استحوذ على مقدرات البلاد وحول الجزء الوافر منها إلى ورق حائط شوهت وجوه المدن وجمال الحياة ما دفع صحفياً شاباً إلى أن يكتب متحسراً وساخراً «مرتباتنا معلقة على الجدران».
على الضفة الأخرى لم يعثر المنتمون للثورة على أدوات للمقاومة غير وسائل التواصل الاجتماعي بإظهار صورهم موشحة بعلم البلاد مرصعاً بنشيد ثورة 26 سبتمبر «عشت يا سبتمبر التحرير يا فجر النضال» وبإبراز صور قادة وشهداء الثورة وبالمأثورات التي توثق محطات فاصلة في التصدي لمحاولات الإماميين استعادة عرشهم. إنه اختيار الممكن في ظل استحالة خيار التحدي من إدراك أن خروجهم إلى الشوارع سيواجه بعنف بالغ الضراوة من قبل عصابات أدمنت القتل.
سخرت جماعة الحوثي الموارد المنهوبة للاحتفال بثلاث سنوات مضت من احتلال ميليشياتها العاصمة فيما يسدل ستار من التجاهل على ذكرى ثورة 26 سبتمبر التي أطاحت كهنوت الإمامة المتخلف والباغي ووضعت اليمنيين أمام إمكانيات التحرر والتقدم
في هذا المناخ المضطرم والمخيف توارى الرئيس السابق علي عبدالله صالح وتعفف من الكاميرا بعد أن كان يهيم بها عشقاً إلى درجة أنه اعتاد زيارة ثلاث جهات في اليوم كي يلقي ثلاث خطب. وكان استعرض عضلاته بجمع أنصاره في 24 أغسطس/آب الفائت لإحياء ذكرى تأسيس حزبه، واكتفى بمناشدة خجولة لأعضائه بأن يحتفلوا بثورة 26 سبتمبر بعيداً عن إدارته. وبهذا غسل يده وتخلى عن ثورة طالما استمد منها شرعيته في الحكم ولو بالادعاء مكملاً خيانته لها بتسليم البلاد لطلاب إرث الإمامة. في ذلك اليوم من أغسطس/آب أقدم صالح على تجريب اختبار فاشل. في الظاهر حشد عشرات وربما مئات الآلاف أغلبهم من المحافظات الجنوبية والوسطى، وفي الجوهر كان يعرف أن مجيئهم لا يعبر عن انحياز له بل تحيزاً ضد شريكه. يومئذ رد عليه الأخير يستخف به فأجرى تعيينات وضعت في مواقع عليا بالجهاز التنفيذي والسلطة القضائية شخصيات موالية له من خارج الأجهزة، واعترض الرئيس السابق وطلب التفاهم وانعقد لقاء أطل فيه عبد الملك الحوثي من شاشة تلفزيونية وبدا المشهد استعلاء من واحد وضعف في الآخر، وتحول المشهد إلى استجواب وإملاء شروط من المتمرد على الرئيس السابق. وبقدر ما كان لقاء مهيناً فقد كان مفصلياً في العلاقة بينهما وربما في مسار الأزمة والحرب.
حتى ذلك التاريخ ظل البعض يراهن على أن صالح ما زال يحتفظ بولاء قوات ضاربة في الحرس الجمهوري وإن إشارة تشجيع من التحالف العربي ستساعد على اختصار طريق النصر مقابل خروج آمن له ولأسرته، لكن الرئيس خيب الرجاء وأظهر عجزاً مشيناً. لقد لبى رغبة الحوثي في اعتزال العمل السياسي وتمنى أن ينقله إلى مسقط حيث يضمن حياة هادئة ويبعد الدوشة عن صاحبه، لكن الحوثي لا ينسى ثأره ولا يسقط ست حروب قضى فيها شقيقه، وقبل ذلك فهو مثل «الإخوان» المسلمين تماماً يعبد المال أكثر من عبادة الله. وكذلك فإنه يعرف أن صالح كدس ثروات طائلة وأن عليه أن يسحب منها ما استطاعت يده أن تصل إليه. ولعل صالح وافق وأعطى بعض الرشى لكن السيف ما زال مشهراً في وجهه، وقد فاجأه خطاب من اللجنة العليا لمكافحة الفساد يطالبه بتنظيف ذمته المالية والكشف عن ثروته ومصادرها.
بعض الظن أن الرئيس السابق لن يجد طريقاً للهروب يحفظ له حياته وأمواله، وأكبر الظن أن الحوثي وضعه تحت مجهر رقابة شديدة وأنه ينوي اعتقاله وابتزازه وانتزاع ما يقدر عليه قبل أن يخضعه للمحاكمة وينهي حياته. إن سجل صالح حافل وعهده مملوء بالأحزان والمرارات، وبمقدور أي كان أن يسوقه إلى المشنقة إذا أراد، والشعب اليمني وحده يمكن أن يمنحه الغفران والرحمة. لهذا قد يكون مطلوباً من السلطة الشرعية والتحالف العربي أن يساعدوه في أزمته ويمدوا له طوق النجاة وألا يتركوه أسيراً في سجن عصابة.
يبقى أن السجال شديد على ضفتي مجرى الدم بين جماعة استحوذت على كل شيء وبين شعب يتضور جوعاً وينزف دماً، سجال بين الحرية والطاغوت. الحوثيون في الشوارع يهتفون للعبودية، واليمنيون - سوادهم الأعظم - يرفعون الأعلام على السطوح ويمدونها من النوافذ لكنهم في المناطق المحررة سيخرجون إلى الساحات يغنون للحرية في ذكرى ثورة دكت جبروت الإمامة وطغيانها.
إنهم في انتظار هجوم الخريف الآخر بالنار والدم وبالأمل على إنجاز النصر وزراعة شجرة الحرية من جديد في جبال اليمن والوديان وفي السواحل والروابي