هناك تصريحات أكثر وضوحاً تجاه الإمارات صدرت خلال فترات متتابعة من العام المنصرم؛ عن وزراء في الحكومة، وصدرت حتى عن رئيس الحكومة السابق الدكتور أحمد عبيد بن دغر.. ومعظم هؤلاء دفعوا الثمن سريعاً بتخلي الرئيس هادي عنهم وإقالتهم من مناصبهم، دون أن يضمن هذا الرئيس مستوى لائقاً من العلاقة مع ما يسمى بتحالف دعم الشرعية حتى الآن، ولو على المستوى الرئاسي.
الأصوات التي انتقدها وزير الخارجية لأنها تطالب بإنهاء الشراكة مع بعض دول التحالف؛ تتسم بقدر من الوعي السياسي الذي نضج خلال خمس سنوات من الخذلان والمؤامرات، لذا لا غرابة في أن يشير أصحاب هذه الأصوات إلى أبو ظبي، وأحياناً إلى الرياض.
لكن لا أحد يجادل بشأن المترتبات الخطيرة لخروج التحالف من المعادلة العسكرية الراهنة في اليمن قبل الحسم مع الحوثيين، في ظل بقاء كفة الحوثيين راجحة حتى الآن لجهة الاستعداد لمواجهة عسكرية طويلة مع بقية الفرقاء؛ يتوفر لها ما يكفي من السلاح والإمدادات ووحدة الصف والخبرة القتالية.
وهذا لا يعني أن التحالف موجود في اليمن لتحقيق هذه الغاية على وجه التحديد. فهدف هزيمة الحوثيين هو هدف سعودي خالص، ولكنه قابل للمراجعة في ظل العقلية السائدة المهيمنة في الرياض.
فطيلة أربعة أعوام من التدخل العسكري للتحالف، جرى إضعاف القوة العسكرية الضاربة للانقلابيين في صنعاء، والتي هي تركة أكثر من نصف قرن من التسليح والإعداد القتالي لجيش بقي مناطقياً ومذهبياً، وصاحب عقيدة قتالية تقوم على فكرة إخضاع الأغلبية الساحقة بأي ثمن.
لكن سلاح التحالف وموقفه السياسي استهدفا طيلة الفترة الماضية أطرافاً هي جزء أصيل من معسكر التحالف المساند للشرعية؛ إلى حد اليقين الذي يترسخ لدى البعض منا بأن هذا التحالف إنما أتى لتحقيق هذه الغاية، وليس أي شيء آخر.
ومما لا شك فيه، أن إضعاف الأطراف المحلية المتقاتلة في اليمن ليست إلا وصفة كارثية أضمرها هذا التحالف لبلد مثل اليمن الذي تتربص به (بسبب هذه الوصفة) حربٌ أهلية طويلة الأمد؛ بوادرها بدأت تلوح في الأفق في ضوء التخاذل الذي تظهره الشرعية وداعموها تجاه مقاتلين يفتقدون للدعم في الجبهات الرئيسية من وسط البلاد.
يتسلح الحوثيون بما تبقى من هذه القوة في فرض خيارهم المسلح على اليمن، واستثمار التناقضات التي تعصف بمعسكر الشرعية في تحقيق اختراقات خطيرة على خطوط التماس مع القوات الحكومة، خصوصاً في وسط البلاد.
أكثر هذه الاختراقات تجري حالياً في شمال الضالع؛ مهددة المحافظة التي يتمسك فيها الطيف الموالي للإمارات، بقيادة عيدروس الزبيدي وشلال شائع، بخيار الانفصال عن الدولة اليمنية. وتجري بعض هذه التقدمات الت يحرزها الحوثيون أيضاً على مشارف مديريات يافع، المنطقة التي ينتمي إليها معظم منتسبي الحزام الأمني المدعوم من الإمارات، إثر سقوط المواقع الاستراتيجية الواقعة في مديريتي ذي ناعم والزاهر التابعتين لمحافظة البيضاء المجاورة.
وحتى هذه اللحظة، لا يحسن التيار المتمسك بخيار الانفصال، تقدير الموقف العسكري وأثره الكارثي على الضالع ويافع وغيرها من المحافظات الجنوبية الأخرى، بل يكشف بهذه المواقف الطائشة، عن حجم الغباء السياسي والاستراتيجي، الذي يحكم سياساته تجاه المهددات الآتية من الحوثيين.
فقد بقيت التشكيلات العسكرية الانفصالية ترقب المعارك الدائرة في شمال الضالع وفي محافظة البيضاء، وهي تقترب من مناطق نفوذهم، وتظهر شماتة بادية تجاه المقاتلين القبليين في هذه المحافظة؛ وهم يصدون الهجمات الحوثية ويلحقون بها خسائر كبيرة، ويصمونهم كما يصمهم الحوثيون بـ: "الإخونج" و"الدواعش".
كل ذلك كان يجري تنفيذاً لاستراتيجية إماراتية؛ تقضي بإبقاء المناطق في المحافظات المحسوبة على الشمال ساحة استنزاف لأشجع المقاتلين الذين ينتمي معظمهم لتيار عريض متحمس للشرعية ولاستعادة الدولة الاتحادية، وبعضهم ينتمي إلى التيار الإسلامي الديمقراطي المنضوي في إطار الشرعية، وهو بيت القصيد بالنسبة لأبو ظبي؛ التي يريد حاكمها القوي محمد بن زايد أن يغمض عينيه ويفتحها ولا يرى أثراً لهؤلاء المقاتلين وحزبهم في اليمن.
بعض القادة العسكريين الانفصاليين الذين أعدتهم الإمارات؛ زاروا قبل يومين جبهة الضالع، وإثر هذه الزيارة شهدت الجبهة تراجعاً لافتاً لحساب الحوثيين، الأمر الذي دفع بالمتابعين إلى الاعتقاد بأن الزيارة ربما كانت جزءا من عملية مقصودة للضغط على مقاتلي الشرعية، وهي رسالة الهدف منها الضغط على الشرعية نفسها وعلى وموقفها السياسي.
يأتي ذلك في تقديري على خلفية إصرار الشرعية بدعم من الرياض على انعقاد مجلس النواب في مدينة سيئون بوادي حضرموت، وهو حدث سياسي مهم بالنسبة للشرعية حاولت الإمارات مقاومته بشتى السبل، عبر دفع أتباعها لتسيير مظاهرات، وتهديد البيئة الأمنية لانعقاد المجلس الذي نجح في انتخاب هيئة رئاسته ولجانه البرلمانية وإقرار الموازنة، ومكّن الشرعية من وضع يدها على أهم مؤسسة دستورية في البلاد.
ينضج موقف التحالف بأشكال فجة من الانتهازية السياسية والابتزاز، والمواجهة البينية بين قطبيه التي تعكس صور مختلف من التنسيق أحياناً، والتناقض أحياناً، والتنافس على قضم الأراضي أحياناً أخرى.
إنه الأداء الذي يكرس تحالف الرياض- أبو ظبي غبياً كأدواته، من حيث سوء تقدير النتائج الكارثية لسياسة تفتقد إلى الأخلاق تجاه الشرعية التي استنجدت به، ورهنت الدولة ومستقبلها، ورهنت شعباً بكامله لإرادة دولتين يهيمن عليهما جيل متغرب من القادة؛ يفتقد إلى الفطرة العربية النقية وإلى مكارم الأخلاق، ويتسم فضلاً عن ذلك بأفق ضيق لا يرى معه مستقبلاً آمناً لهاتين الدولتين إلا بالذهاب خلف مشروع صفقة القرن وعوارضها السيئة، بما تشكله من هجمة خطيرة على الأمة بكاملها.