ليس مصادفة أن يرد ذكر الأطراف الأربعة الأعضاء في اللجنة الرباعية التي سبق لوزراء خارجيتها وأن حددوا، بعد اجتماع عقدوه في لندن في 27 نيسان/ أبريل الماضي، الخامس عشر من هذا الشهر حداً زمنياً لانسحاب الحوثيين من موانئ الحديدة، ضمن المرحلة الأولى من اتفاق استوكهولم، وهذا الموعد يتزامن كذلك مع الاجتماع القادم لمجلس الأمن، والذي سيخصص لمناقشة آخر المستجدات في اليمن.
حتى الآن، يصعب التكهن بمضمون الرسالة التي حملها جريفيث القادم من لندن إلى الحوثيين إبان زيارته الأخيرة للعاصمة اليمنية صنعاء، لكن يبدو أنها كانت على صلة وثيقة بالمهلة التي حددتها اللجنة الرباعية للحوثيين، وانطوت على ما يكفي من الحسم لحمل الحوثيين هذه المرة على اتخاذ خطوة الانسحاب أحادي الجانب هذه، بغض النظر عن نهايتها الضبابية.
أقول ذلك لأن الانسحاب الأحادي يعيد إنتاج محاولات تكتيكية سبق للحوثيين أن قاموا بها من قبل ورفضتها الحكومة، خصوصاً أن الانسحاب الأخير يجري خارج ترتيبات استوكهولم التي تقتضي إنهاء السلطة الأمنية والإدارية للحوثيين، وتنفيذ خطوات أخرى؛ بينها إنهاء التحصينات العسكرية وتسليم خارطة بالألغام، وتطبيع الحياة في المناطق التي يجري الانسحاب منها، وضرورة مشاركة الطرف الحكومي في الرقابة على عملية الانسحاب.
كان المبعوث الأممي سيقدم إحاطته إلى مجلس الأمن بدون إنجاز واضح؛ يحميه من إخفاق دبلوماسي يصعب تغطيته بعبارات الدعم المعتادة في بيانات مجلس الأمن، لذا عمل ما بوسعه لإقناع الحوثيين بالانسحاب، والذي تزامن مع تصعيد أمريكي خطير ضد إيران؛ إحدى خلفياته ما تعتبره واشنطن دوراً سيئا لإيران في اليمن، وضلوع مباشر في استهدف العمق السعودي بالصواريخ البالستية.
لم يكن أمام المبعوث الأممي المحاصر بالإخفاقات؛ من خيار سوى تسمية الأطراف المعرقلة لتنفيذ اتفاق الحديدة: هل هي الحكومة الشرعية ومن ورائها التحالف، أم جماعة الحوثي الانقلابية؟ وكلا الخيارين يمثل مجازفة من شأنها أن تنهي دور المبعوث الأممي كوسيط غير مرغوب فيه.
يبدو جريفيث اليوم، بالخطوة التي دفع الحوثيين إلى إنجازها، كمن تحرر من الضغوطات التي كان يتعرض لها من أطراف عديدة، خصوصاً بعد أن استنفد تقريباً كل مبررات الإخفاقات المتلاحقة لهذا المبعوث ولكبير المراقبين الدوليين في تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاق استوكهولم بشأن الحديدة.
لكن خطوة الانسحاب الأحادي لا يبدو أنها فقط مجرد صفقة ثنائية أبرمها جريفيث مع الحوثيين، بل صفقة أطرافها عديدون. فقد اتفقت الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة في الساحة اليمنية على مركزية اتفاق الحديدة في سياق الأزمة والحرب في اليمن، ورأت في تنفيذ الاتفاق تحولاً مهماً في مسيرة السلام.
ويبدو أن التحالف سيستفيد من خطوة الانسحاب الحوثي أحادي الجانب، في الحصول على مبرر لحفظ ماء الوجه وإسقاط خيار مواصلة الحرب في الحديدة والساحل الغربي من حساباته، والشروع في ترتيباته التي بدأت ملامحها الخطيرة تتجلى في خلق وقائع جديدة على الأرض، عبر تثبيت نفوذ الأطراف المسلحة المناهضة للدولة اليمنية الموحدة، وتلغيم المناطق المغلقة على النفوذ العسكري والأمني للحكومة الشرعية مثل سقطرى والمهرة.
حتى الآن، لا تزال خطوة الانسحاب الحوثية رمزية، خصوصاً أنها تجري لمسافة لا تزيد عن خمسة كيلو مترات من الموانئ الثلاث، وهي مسافة كافية لبقاء نفوذه العسكري دون أي تغيير، إلى جانب أن خطوة كهذه جاءت والحوثيون يحققون تقدماً عسكرياً مهماً في جبهات بالغة الحساسية في البيضاء والضالع بوسط البلاد، في ظل تسهيلات يجمع المراقبون على أن الإمارات قدمتها عبر مليشياتها للحوثيين، بهدف إعادة التموضع عند الحدود الشطرية السابقة.
كل ذلك يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الخطوة الحوثية ليست سوى تكتيك من شأنه أن يتحول إلى صفقة متعددة الأطراف، الخاسر الأكبر فيها هي الحكومة الشرعية؛ التي يبدو أنها خرجت نهائياً من معادلة الحرب في الحديدة، ما قد يجعلها ضحية محتملة في الترتيبات المتصلة بمستقبل البلاد، والتي تجري هذه المرة تحت وقع التطورات العسكرية التي تجري في الخليج العربي.