صحيح كان الفعل الثوري في زمن الربيع العربي يفتقد للإتكا على نظرية ثورية تحدد مسبقاً معالم حركته بدقة ، لكنه كان لا يخلو من الوعي بفكرة التغيير الجادة ، بل ويمتلك قوة الشباب وروح التضحية في سبيل اسقاط الانظمة الحاكمة، بل واخطر مافي حركة الفعل الثوري يومها من وجهة نظر الملوك والانظمة المستبده انه فعلاً ثورياً تقوده الجماهير والشعوب مباشرة دون وساطه من نخب او احزاب يمكن المساومة معهم او احتوائهم ، وهو مايعني انه لاول مرة في تاريخ الشعوب العربية يتم تأسيس معادلة صراع ثورية حقيقية بين شعوب مظلومة وثائرة تمارس الفعل الثوري وتطوق للمستقبل الذي يجب ان يكون وانظمة مستبدة تتمسك بالماضي وتعيد انتاج قيمه وأنساقه كسلع فاعلة يتم تداولها في المستقبل الذي يجب ان يظل مجرد حركة زمنية إلى الامام بفعل تعاقب الاوقات ولكنها تظل خالية في الاساس من صيرورة التحول نحو التقدم .
هذا الفعل الثوري بحد ذاته كفيل بأن يجعل الملوك والحكام ( لاسيما الذين ينامون على بحور من النفط والثروات وتتعاقب السلطة فيهم عن طريق الوراثة ولم تشرع شعوبهم بعد في ممارسة الفعل الثوري ) مستعدون وبكل بساطة للتضحية بكل ثروات شعوبهم في سبيل اجهاض هذا المارد الثوري قبل ان ينجح في تغيير المعادلة السياسية وينجح في صناعة المثال الذي يجب ان يحتذى به في صناعة مستقبل الشعوب العربية ، واكثر من ذلك تبرز الحاجة والإصرار للقضاء على مثل هذا الفعل الثوري اذا بدأ يشرع في التحرك داخل دولة مجاورة ، لاسيما وان الربيع العربي بدأ يومها يمارس فعلاً ثورياً جاداً يتحرك مسرعاً ويسقط حكام وانظمة دون خصوصية تتعلق بالمكان يتوقف بموجبها عند الحدود السياسية والجغرافية للدول .
نعود اكثر لصلب الموضوع ونحاول الحديث وفق تحليل منطقي لمسار الاحداث في اليمن ، وبالتحديد عن معقولية مشاركة السعودية في الانقلاب بدافع الرغبة في اجهاض التجربة الثورية في اليمن ، وكما قلنا بأن التفتيش عن الدليل الذي يدين السعودية في عمل كهذا يجب ان لا يتم البحث عنه في نتائج الانقلاب الغير متوقعة للمشاركين فيه ، بل في المعطيات التي شكلت مسبقاً واقعاً موضوعياً غير مقبول خلال المسار الثوري الذي تشكل في زمن الربيع العربي وتلك المعطيات هي التي خلقت في الأساس الرغبة الملحة في إحتواء الثورة او في ضرورة إعداد سيناريو الانقلاب في اليمن .
تقول المعطيات اولاً ان اليمن دولة مجاورة للمملكة السعودية وإن هذه الاخير أدمنت فعل التدخل في الشئون الداخلية لليمن ، وانها عبر تاريخ اليمن الحديث لم تتوقف عن استخدام ثقلها السياسي والعسكري والمالي، في مواجهة الاحداث وفي صناعتها في اليمن منذ ثورة سبتمبر 1962/ وحتى التدخل العسكري في عام 2015/ م .
وتقول المعطيات ثانياً ان شباب اليمن في عام 2011/ ثاروا على نظام الحكم في صنعاء بكل طموح المستقبل ، وقد تحول فعل الشباب الى ثورة شعبية جماهيرية تطالب باسقاط النظام ، وتأسس لوعي سياسي واجتماعي وثقافي يتقاطع في الاساس مع الماضي الذي ظل قادراً على اعادة انتاج نفسه حتى في ظل الجمهورية والديمقراطية في اليمن وبدعم سعودي سخي ، يبدأ بدعم شيخ القبيلة والفتوى على حد سوى وينتهي غالباً في صناعة رئيس الدولة ، وهو مايعني بداهة ان ممارسة فعل ثوري قادر على انتاج قطيعة مع الماضي في اليمن (الدولة المجاورة) غير مقبول للحكام في الرياض ، كما ان مصطلح الثورة نفسه غير مقبول في الفكر السياسي للملوك في السعودية وللأمراء في دول الخليج .
وتقول المعطيات ثالثاً ان ثورة الشباب في اليمن اندلعت في وجه نظام صالح الرئيس الذي اختارته السعودية في الماضي لحكم اليمن وظل وفياً للحكام في الرياض وحريصاً على تقديم التنازلات لهم لاسيما في توقيع اتفاقية الحدود مع السعودية فقد تجراء من بين جميع الحكام في اليمن على التوقيع والتنازل عن الاراضي اليمنية ، كما انه هو الرئيس اليمني الوحيد الذي اقدم من بعد ثورة سبتمبر واكتوبر على الشروع بكل وضوح في تحويل نظام الحكم في اليمن الى نظام وراثي على غرار ماهو في ممالك الخليج تحت يافطة الجمهورية ، فالسعودية من زاوية مصالحها الاستراتيجية ترى في نظام صالح بكونه افضل نموذجاً لحكم اليمن ويجب ان يستمر هذا النموذج .
وتقول المعطيات رابعاً ان الفعل الثوري في اليمن مقارنة بما هو عليه في سوريا مثلاً كان يتمتع بزخم جماهير يتزايد يوما بعد يوم ويشكل ضغط ثوري حقيقي على النظام الذي بدأ يترنح اكثر من مرة ، وهو مايعني ان قوة الفعل الثوري كان على مستوى الداخل في اليمن مؤثراً ولكنه في المقابل كان يفتقد للمساندة الصادقة على مستوى الخارج لاسيما من دول الاقليم ، وما يؤكد ذلك ان السعودية دفعت بكل ثقلها السياسي والمالي وحتى الدعم العسكري للوقوف الى جانب الثورة في سوريا رغبة في إسقاط نظام الاسد - ليس حب في علي ولكن كرها في معاوية - بينما كان موقفها في اليمن الى جانب النظام الحاكم بالمطلق ولم تدعم الثورة سياسياً او مالياً رغم زخمها الجماهيري ، بل نجدها اعطت الوقت المناسب لرئيس صالح في التخلص من ظاهرة الساحات والتي من المؤكد يومها في حسابات الملك عبدالله بكونها اصبحت ظاهرة تؤسس لثقافة التمرد في شباب شبه الجزيرة العربية وليس في اليمن فحسب ، وعطفاً على ذلك حاول صالح في جمعة الكرامة بصنعاء وفي احراق ساحة الحرية في تعز قمع شباب الثورة بقوة السلاح وقذف الرعب في قلوبهم ولكنه فشل ،
كما ان الواقع يقول عندما تعرض صالح للقتل في جامع النهدين سارعت السعودية لإنقاذه من الموت المحقق وتم اسعافه مع رموز نظامه واعادته الى صنعاء لاسيما وإن اصابته كانت بالغة وقد اعربت كثيرا من الدول وفي مقدمتها امريكا عن عدم استعدادها لإستقبال صالح للعلاج .