لهذا من الجيد الامعان في طبيعة المهمات التي تطرحها الثورة, الامعان في تلك الاشياء التي تنقص القوى الشعبية حيث امتلاكها سيجعلها قادرة على انتزاع خلاصها.
هذا هو الشيء الوحيد الذي يستحق الجهد, بدلا من تضييع الوقت في الحديث عن شرعية هادي او انتظار قرارات المجتمع الدولي أو الرد على ما تبقى من منظومة صالح. لأن الأهم يظل يحدث داخل المجتمع وفي تلك الاعتمالات التي فتحت ثورة فبراير المجال أمامها لتتفاعل وتتراكم وهناك فقط لا يزال ثمة دور قديم ومتجدد ويظل يلح علينا طوال الوقت.
في فبراير, أنفتح مسارا ثوريا في بلادنا كما في كل المنطقة العربية, وكان أن عصف بنظم الاستبداد كما بكل البنى المتخلفة. حتى في الدول التي لم تشهد خروجا جماهيريا, رأينا, كيف ظهرت الأزمات الى السطح. واذا كان المستوى المعيشي لمواطني بعض الدول, وايضا توفر قدر كبير من الاستقرار والتنمية, قد منع الجماهير من الاندفاع والخروج للشارع, فإن الأزمة كانت قد عبرت عن نفسها بطرق مختلفة, وما تدخل أنظمة الخليج في بعض الدول إلا إحدى تعبيرات هذه الأزمة. ما يعني أن المنطقة كلها تعيش داخل اعصار آخذت تحركه الرياح مطلع الالفية الثانية, ولن يخمد إلا بعد أن تنجز الشعوب هدفها في الانتقال من ظروف التخلف والتأخر, الى عهد جديد مختلف كليا, لكن ليس قبل انجاز الشروط الذاتية.
بالطبع هبط النقاش المتعلق بالثورة في الذكرى الثامنة لفبراير الى مستوى غير مسبوق, وهذا طبيعي عندما يكون بقايا منظومة صالح طرفا في هذا النقاش.
لكن ايضا وكما هي العادة برزت تلك الأصوات التي تختصر الثورة في التغني بها ببلاهة بينما يفترض التصدي للمهمات التي تطرحها, وآخذ النقد الموضوعي الموجه للثورة على محمل الجد.
لكن ايضا وكما هي العادة برزت تلك الأصوات التي تختصر الثورة في التغني بها ببلاهة بينما يفترض التصدي للمهمات التي تطرحها, وآخذ النقد الموضوعي الموجه للثورة على محمل الجد.
واذا كنا نسلم أن الثورة دخلت في سيرورة قد تطول وقد تقصر, فعلينا معرفة الاسباب التي منعت الثورة من تحقيق أهدافها الأنية وايضا البعيدة.
ولعل أبرز نقد وجه لثورة فبراير حتى الآن كما لمجمل الثورات العربية هو أنها فشلت في انتاج التنظيم الاجتماعي وخلق قادتها الحاملين لتطلعات القوى الشعبية. مع ذلك لا يمكننا نقد الثورة, او القول ان الناس أخطئوا عندما أشهروا غضبهم فهذا تحدده ظروفهم لم تعد تحتمل وايضا الافاق التي أصبحت أمامهم مسدودة لكن نقد الفاعلين الذين كان بوسعهم التصرف على نحو مختلف مسألة ضرورية. واذا كان هناك احد يمكننا نقده فهو الأحزاب التي حافظت على طبيعتها الاصلاحية, حتى وقد آخذت تتصدر المشهد لكن دون ان تكون عند مستوى الحدث.
الثورة حققت الكثير حتى الآن, فالناس كسرت حاجز الخوف, وأنتزعت كثير من المكاسب, ليس أقلها أهمية هو تعميق الشروخ داخل الطبقة المسيطرة, وتدمير ترسانة ضخمة من السلاح ظلت على الدوام موجهة الى صدور الشعب.
غير ان هناك اسباب جعلتها تتصرف على هذا النحو, لا تقل أهمية عن الاسباب التي منعت تخلق التنظيم وانتاج قيادة ثورية من داخل الميادين وفي صفوف الشباب.
نعرف انه منذ انتهاء الحرب الباردة, كانت السياسة قد شهدت تراجعا مخيفا, على مستوى العالم, وعلى مستوى المنطقة العربية على نحو اشد. خصوصا تلك السياسة المرتبطة باليسار الذي آخذ يتقهقر بينما الثورة هي في اساس ادبياته وبرنامجه النضالي. واذا كنا نتفهم هذه الحالة, فنحن ايضا نعرف ان البديل كان في صعود الأصوليات الدينية الأمر الذي أنتج حالة افتراق بين الناس والسياسة, وايضا حالة سد الفراغ من قبل قوى لا تؤمن بالثورة, ولا تهتم لقضايا الناس, فهي تستمد شريعيتها من الغيبيات والأوهام, وتتوطن عبر استثمار جوع الناس وبؤسهم من خلال تقديم الاعطيات لا صناعة الحلول الجذرية.
مثل هذا الوضع والممتد طوال عمر الشباب الذين بادروا إلى تفجير الثورة, بالتأكيد سيضعنا أمام توقع مفاده, انعدام القدرة على قيادة فعل بحجم الثورة واختصاره بالساحات أو حتى بالبحث عن خلاصات فردية.
غير أن وجود وعي حقيقي, سياسي في المقام الأول, ومعرفة دقيقة بتلك المشاكل التي دعت الناس للثورة وهي هنا مشاكل اقتصادية واجتماعية في المقام الأول, ابرزها الافقار الواسع, وتعاظم الفجوات الاجتماعية, حيث اقل من 1% تحتكر 95 % من مجمل الثروة. و99% يتصارعون لأجل 5% ثم غياب الخدمات الاساسية من صحة وتعليم ...الخ معرفة كل هذا كفيل بانتاج عمل سياسي مختلف.
ثم أن معركة اكتساب الوعي المطابق للمصالح التي ارادت الثورة التعبير عنها, هذه المعركة كانت قد بدأت للتو. وضمن مسارات الثورة, تبدو معركة اكتساب الوعي هي الأقسى مقارنة بمعركة الانصدام المباشر مع النظام, لأنها تمر بمراحل صعود وانتكاسات, نجاح واخفاقات.
بالمقابل, من وقت مبكر, أراد النظام الواعي بمصالحه والقادر على بلورة طرق دفاعية سريعة, ان يظهر الثورة بغير مظهرها, مرة بالقول انها أزمة, ومرة بانها مظاهرات تقف خلفها احزاب اللقاء المشترك وعندما كان يعجز عن بلوغ مرامه, كان يسعى لتصويرها بأنها ثورة حقيقية قام بها شباب مستقل لكن الاحزاب سرقتها منهم.
في الحقيقة هناك قائمة طويلة من التشويهات التي حرص النظام على وصم الثورة بها, لكي يسهل الانقضاض عليها, واعتقد أنه اصبح من اللازم دراسة كل تلك الالاعيب والوقوف عليها, لأنها تتجدد بأكثر من طريقة وفي سبيل ذات الهدف.
فالنظام عندما تعب من صرف الناس, اراد فعلا جر الثورة الى مربع العنف, ثم تصويرها كصراع بين اجزاءه صالح ومحسن, صالح وبيت الاحمر, وحتى صالح والاخوان, ثم لم تتوقف آلته الاعلامية عن القول أنها مؤامرة صهيونية.
وعندما قاد ثورته المضادة, كان قد نجح في استثمار الشروخات التي نتجت بفعل استخفاف القوى السياسية التي تصدرت المشهد وقبلت المشاركة في الحكم. ولكن لأن النظام اصبح ضعيفا, حتى مع احتفاظه بالآلة العسكرية الضخمة وتحالفه مع جماعة دينية وعصبوية, فقد ظل يخشى توحد الشعب من جديد, لهذا اراد تصوير المعركة وكأنها مع مراكز نفوذ وأحيانا أطراف بعينها, قبل ان يحاول تملق الدوائر الغربية وتصوير حربه في استعادة السلطة وكأنها حربا على الارهاب.
لكن الوعي الذي كانت قد بذرته الثورة, كان لكل تلك المكائد بالمرصاد، فبالبرغم من تعاسة الأحزاب السياسية, وهشاشة الحكومة, رأينا كيف تفجرت مقاومات باسلة, كانت خير دليل على اليقظة الشعبية, وعلى الاصرار الثوري على السير قدما في طريق التحولات بالرغم من كل الكلفة المطلوبة.
هناك أيضا ملاحظة لا تزال غير مرئية يمكن الحديث عنها عند استدعاء موضوع الثورة وما حققته. وفقا لهذه الملاحظة فالثورة حققت الكثير حتى الآن, فالناس كسرت حاجز الخوف, وأنتزعت كثير من المكاسب, ليس أقلها أهمية هو تعميق الشروخ داخل الطبقة المسيطرة, وتدمير ترسانة ضخمة من السلاح ظلت على الدوام موجهة الى صدور الشعب.
ثم ما بتنا نشاهده منذ اربع سنوات حيث أصبح هناك ميل عام في اعتماد الناس على انفسهم في مواجهة بقايا الثورة المضادة, حدث هذا في عدن وفي الضالع وفي تعز ومشرعة وحدنان, وظل يحدث في عتمة وريمة وإب وليس أخيرا في الحشا وفي حجور.
لو أن هناك مهمة ملحة أمام الثوريين اليوم, فسوف تتمثل بدراسة هذه الانتفاضات ودراسة امكانية تجددها وتوسعها, ثم القيام بالدور المطلوب من أجل تواصلها وتحقيق حد أدنى من التنظيم الشعبي المنشود, بدلا من التوقف عند سيرة الشرعية التي لم تعد تعني شيئا, أو عند خصوم الثورة وعدائهم المفهوم للشعب.