فهذه القوى تعد بمثابة خلاصة للحركة الوطنية، صحيح لديها أخطاء وصحيح أن بعضها أصبح مثقلا، لكن في ظل سيادة المشاريع ما قبل الوطنية وفي ظل التهديدات العاصفة، ولأن الجديد لم يكتمل نموه بعد، فإن دور القوى السياسية التقليدية كان لا يزال ضروريا وملحا.
لكن أداء مختلف القوى السياسية خلال سنوات الحرب وقبل ذلك أداءها خلال الفترة التي أعقبت الثورة، بات يؤكد أن هذه القوى لم تعد قادرة على لملمة أوراقها من جديد للقيام بدورها الوطني.
يبدو أنه أصبح على الأجيال الجديدة ان تناضل من أبعد نقطة ممكنة، طالما أن المشاريع الماضوية تحتشد بهذا الشكل، بينما الفهلوة والحلول المطبوخة على عجل أصبحت تقدم كبديل دون أن تعكس حاجة المرحلة أو تقترب منها.
تعيين رئيس وزراء من خارج المشهد السياسي التقليدي، من خارج الخبرة التاريخية، وبعيدا عن متطلبات الواقع، كان بمثابة دليلا جديدا عن أن الأحزاب السياسية التقليدية في طريقها إلى الاحتضار، وأن ما نراه هو المصالح غير المشروعة وقد آخذت تتصارع وفقا لشريعة الغاب.
الأحزاب السياسية باتت أسيرة أفقها الضيق الأمر الذي أتاح للقوى الخارجية أن تتحكم بالمشهد وتفرض أجندتها وترتكب جرائمها وتعطل مصالح اليمنيين ثم تعيد هندسة المشهد السياسي على مقاس الفوضى وبهدف قتل الأمل في صدور الناس.
الشرعية التوافقية والمبادرة الخليجية هو كل ما تبقى من عدة هذه الأحزاب، وهذه كلها أمور شكلية لا تنفذ إلى جوهر ما يتطلبه الواقع من حلول.
لو أن هناك شيئا قد تحقق بسبب التوقف عند هذه المفاهيم والعجز عن إنتاج رؤى بديلة، فهو ذلك المتعلق بتوفير الظروف الملائمة ليتفرد الرئيس هادي بما تبقى لديه من قرار لكن أيضا ليس بمعزل عن الإرادات المتصارعة.
في مشهد موت السياسة اليمنية، يبدو كأنه لم يعد هناك من طرف يأخذ جماعة الحوثي على محمل الجد، باستثناء الناس العادين الذين يخوضون معركتهم المصيرية بعيدا عن أي تنظيم أو إسناد.
عندما اندلعت الحرب فشلت هذه الأحزاب في بناء مقاربة وطنية تعمل على توحيد المجتمع من جديد خلف مصالحه وفي مواجهة الأخطار المحدقة به.
كان درسا قاسيا ذلك الذي تجرعته القوى السياسية في اليوم الثاني من سقوط العاصمة صنعاء في يد جماعة طائفية بمساعدة مباشرة من حزب صالح.
وكان هذا يوضح فداحة ما ارتكبته القوى السياسية، التي فشلت في إدارة المرحلة الانتقالية واستسلمت للضغائن والمقسوم.
أما الأكثر غرابة فهو أن هذه الأحزاب لن تتعلم الدرس ولن تنجح في التأسيس لمرحلة جديدة تتصدى لما تطرحه اللحظة من مهام.
هناك أربع قوى سياسية تقليدية (الاشتراكي، الناصري، المؤتمر، الإصلاح) هي بمثابة خلاصة الحركة الوطنية بنجاحاتها وإخفاقاتها وهي المعنية بمواجهة المأزق الماثل وتجاوزه، لكن هذه القوى لم تفعل شيء حيال ذلك.
بل ظلت تؤكد استلابها وتعاستها. ففيما ذهب المؤتمر لإشعال هذه الحرب بالتحالف مع جماعة الحوثي استجابة لنوازع صالح المرضية ورغبته الانتقامية، فإن فهلوته جعلته ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وكل قسم أصبح يساهم بطريقته في تعقيد المشهد السياسي، ولا يبدو أن هناك مجال لإعادة توحد المؤتمر أو تجاوز عقدة صالح.
وهناك الإصلاح الذي تصدر المرحلة الانتقالية وأظهر نزعاته البدائية دون أن يدرك خطورة الوضع، وهو ما جعل القوى السياسية تنفر من حوله وتتركه يواجه الأخطار وحيدا.
لكن الإصلاح بدلا من مراجعة طريقته في إدارة المرحلة واصل عمله بنفس الرتم: الهلع في مواجهة الأخطار وتملق من يقفون خلفها والابتعاد عن القوى السياسية والاجتماعية واستعدائها.
ربما حجم الأخطار التي يواجهها الاصلاح جعلته يقبل بحالة الاستلاب مع مراكمة بعض المصالح. لكن يصبح الأمر مرعبا عندما نشاهد جماعة الحوثي وقد أصبحت تنفس عن أزمتها باستثمار أزمة الإصلاح وإرسال إشارات مجرد استمرارها دون رد حقيقي وليس فقط التعاطي معها سوف يعمق من أزمة الإصلاح أكثر.
على أن عدم رغبة الإصلاح في إعادة تنشيط السياسة لمجابهة الإخطار بشكل موحد وتجاوز المأزق، بات يوفر للقوى السياسية الأخرى العذر في تراخيها إزاء الاستهداف الممنهج الذي يتعرض له قيادة الإصلاح وأعضائه في الجنوب ومناطق متفرقة.
لو أن ثمة عرق واحد ينبض في جسد السياسة اليمنية فإن هذا التراخي سيعد بمثابة جريمة أخلاقية لا تغتفر. هي فعلا جريمة لكن الإصلاح نفسه يشارك في ارتكابها وهذا لا يعفي باقي القوى التي سكنت ولم تبادر لتبني مواقف مبدئية جدية على الأقل حتى تستطيع إن تثبت أنها لا تزال على قيد الحياة ولديها رؤية مستقلة بعيدا عن أزمة الثقة القائمة.
في مشهد موت السياسة اليمنية، يبدو كأنه لم يعد هناك من طرف يأخذ جماعة الحوثي على محمل الجد، باستثناء الناس العادين الذين يخوضون معركتهم المصيرية بعيدا عن أي تنظيم أو إسناد.