حول أسرار هذا التعلق المرضي الذي يثنينا أحيانا عن المضي صوب آفاق جديدة، قد تكون أكثر ملاءمة. نرفض اقتراحات التغيير الممكنة، خوفا من مغادرة وهم، نتشبث به، كما لو كان مصيرا حتميا واحدا، نرتعب، ويخيل لنا أننا سوف نموت لو غادرناه. ماذا يمكن أن تعني الجدران واللوحات المعلقة والأبواب العتيقة والستائر المنصوبة على النوافذ، المطلة على حديقة مزروعة بشجرات معمرة، صفصاف وحور وزيتون ودوالي وتينة كهلة، على الرغم من أوراقها الندّية الوارفة. ننتقي الحبة التي نقرها العصفور، نتلذّذ بالطعم العسلي الدافق، يغمر الحواس بالبهجة، وهي المزاجية على نحو غريب، لا يمكن تفسيره، بحيث تجود سنةً وتضن سنةً أخرى، غير أنها لم تكف عن مهمتها النبيلة في منح الظل لمن يلوذ بها، هربا من شمسٍ جسورة، هناك مشمشة، أو لعلها شجرة خوخ نلتقط حباتها، قبل أن تنضج تماما، نتلذذ بالحموضة اللاذعة
حين نأخذ قرارا ضروريا بالابتعاد أو يفرض علينا مصيرا كهذا ظلما وجورا وتسلطا تلح أسئلة صعبة بلا إجابات مقنعة أو حتى منطقية حول أسرار هذا التعلق المرضي الذي يثنينا أحيانا عن المضي صوب آفاق جديدة
.
حين نضطر إلى مفارقة أماكن قضينا فيها عمرا من الفرح والأمل واليقين، يكتسحنا الأسى بضراوة. ذلك أننا نفارق جزءا من ذواتنا، من طاقة أرواحنا على العيش والصراع والمناكفة، وتحقيق الفوز وتحمل الخسارات، وتقبل الخيبات بأشخاصٍ توهمنا أنهم رفاق عمر، نفارقها إلى غير رجعة، فيما يشبه موتا صغيرا، لعله بروفة ضرورية، وتمرين لا بد منه، استعدادا للنهايات. نخلف وراءنا حزمة الذكريات وملامح الوجوه وخطوات الأحبة الراحلين، ضحكاتنا ودموعنا وأيامنا العابرات بحلوها ومرّها. بهذا المعنى، نحن لا نغادر تماما، بل نحمّل الأمكنة في أرواحنا حرزا مكينا، يقينا من الخوف مما يضمره مجهول قادم، ولأن الإنسان عبد الألفة، من حيث المبدأ، فإن حالة الارتباك والحيرة عند مفاصل التغيير التي تواجهنا في الحياة، وتحتم علينا التكيف مع متطلباتها وشروطها. مكانك الصغير لن يدوم لك إلى الأبد أصلا، ذلك مناف لطبيعة الأمور. في لحظة ما، عليك أن تحزم الحقائب، لأن الحيز الذي تشغله، وتعتبرة مساحة الأمان التي تخصك ليس نهائيا، سواء كان مقر عمل أو بيت عائلة، وإن كان يمثل بالنسبة لك الوطن، بكل ما يمكن أن يعنيه من استقرار وأمان وديمومة وهوية وعلامة فارقة، فإنك مغادره لا محالة.
ووفقا لفيروز، "دايما في الآخر في آخر في وقت فراق". غنت تلك الكلمات الحزينة، في نهاية كل حفلة، وظل الجمهور يلح عليها من باب الحب، بألا تختم حفلاتها بهذا الإعلان، فتستدرك قائلة في أغنية أقل أسى "إذا الأرض مدورة رح نرجع نتلاقي يا حبيبي". وأحيانا وأحيانا، ترشيهم بكلماتٍ تشي بالأمل، وبإمكانية تحدي الغياب فتشدو من دون كبير اقتناع بكلمات بأغنية "زوروني كل سنة مرة"، فتضج الجماهير الغفيرة على جنبات المسارح بالفرح. أمنا الطبيعة تكره الفراغ، وكذلك نحن البشر، ولأن الغياب فراغ مطلق، فإنه يثير الفزع في نفسك، تجد روحك التي أنهكها السعي في مناكبها مثل ذبيحةٍ، لم يجهز عليها تماما، معلقة بفراغ الاحتمالات. في هذه المرحلة المفصلية بالذات، علينا استنفار كل وسائل الدفاع الكامنة تحفزها من جديد، متشبثين بالأمل والإصرار والتصميم على البقاء والاستمرار، ما دام الدم ينبض حيا في عروقنا المتعطشة للحياة التي نحبها، على الرغم من كل شيء، وهي الحبيبة المستحيلة التي ينبغي ألا يثنينا صدودها، لأننا ندرك أنها سوف ترضى عما قليل، وما علينا سوى مواصلة الأمل.
حين نضطر إلى مفارقة أماكن قضينا فيها عمرا من الفرح والأمل واليقين، يكتسحنا الأسى بضراوة. ذلك أننا نفارق جزءا من ذواتنا، من طاقة أرواحنا على العيش والصراع والمناكفة، وتحقيق الفوز وتحمل الخسارات، وتقبل الخيبات بأشخاصٍ توهمنا أنهم رفاق عمر، نفارقها إلى غير رجعة، فيما يشبه موتا صغيرا، لعله بروفة ضرورية، وتمرين لا بد منه، استعدادا للنهايات. نخلف وراءنا حزمة الذكريات وملامح الوجوه وخطوات الأحبة الراحلين، ضحكاتنا ودموعنا وأيامنا العابرات بحلوها ومرّها. بهذا المعنى، نحن لا نغادر تماما، بل نحمّل الأمكنة في أرواحنا حرزا مكينا، يقينا من الخوف مما يضمره مجهول قادم، ولأن الإنسان عبد الألفة، من حيث المبدأ، فإن حالة الارتباك والحيرة عند مفاصل التغيير التي تواجهنا في الحياة، وتحتم علينا التكيف مع متطلباتها وشروطها. مكانك الصغير لن يدوم لك إلى الأبد أصلا، ذلك مناف لطبيعة الأمور. في لحظة ما، عليك أن تحزم الحقائب، لأن الحيز الذي تشغله، وتعتبرة مساحة الأمان التي تخصك ليس نهائيا، سواء كان مقر عمل أو بيت عائلة، وإن كان يمثل بالنسبة لك الوطن، بكل ما يمكن أن يعنيه من استقرار وأمان وديمومة وهوية وعلامة فارقة، فإنك مغادره لا محالة.
ووفقا لفيروز، "دايما في الآخر في آخر في وقت فراق". غنت تلك الكلمات الحزينة، في نهاية كل حفلة، وظل الجمهور يلح عليها من باب الحب، بألا تختم حفلاتها بهذا الإعلان، فتستدرك قائلة في أغنية أقل أسى "إذا الأرض مدورة رح نرجع نتلاقي يا حبيبي". وأحيانا وأحيانا، ترشيهم بكلماتٍ تشي بالأمل، وبإمكانية تحدي الغياب فتشدو من دون كبير اقتناع بكلمات بأغنية "زوروني كل سنة مرة"، فتضج الجماهير الغفيرة على جنبات المسارح بالفرح. أمنا الطبيعة تكره الفراغ، وكذلك نحن البشر، ولأن الغياب فراغ مطلق، فإنه يثير الفزع في نفسك، تجد روحك التي أنهكها السعي في مناكبها مثل ذبيحةٍ، لم يجهز عليها تماما، معلقة بفراغ الاحتمالات. في هذه المرحلة المفصلية بالذات، علينا استنفار كل وسائل الدفاع الكامنة تحفزها من جديد، متشبثين بالأمل والإصرار والتصميم على البقاء والاستمرار، ما دام الدم ينبض حيا في عروقنا المتعطشة للحياة التي نحبها، على الرغم من كل شيء، وهي الحبيبة المستحيلة التي ينبغي ألا يثنينا صدودها، لأننا ندرك أنها سوف ترضى عما قليل، وما علينا سوى مواصلة الأمل.
العربي الجديد