في أحد أيام مدينة نيويورك من عام 1874م لاحظ مجموعة من المواطنين طفلة تُعاني سوءا واسعا في التغذية، وكذا تنامى إليهم صراخها وبكاؤها المتزايدان مع الأيام، ليكتشفوا بعدها حقيقة ما تعانيه من التعذيب على يد أبويها بالتبنّي، الأمر الذي نحا بـ "الجمعية الأميركية لحماية الحيوانات" للحصول على رخصة قانونية لحماية هذه الطفلة على أنها "حيوان"، لتؤدّي هذه القضية إلى استصدار الإذن لإنشاء جمعية نيويورك لمنع القسوة ضد الأطفال في العام التالي مباشرة 1875م[1].
وبرغم اعتبار البعض الحادثة المذكورة البداية الفعلية لملاحظة العنف التربوي ضد الأطفال في العصر الحديث، وكذا المحاولة الأولى لسنّ القوانين [المدنية الحديثة] التي تجرّمه[1] فإن الأمر نفسه قد تأصل في التاريخ البشري منذ عصوره الأولى، وهو ما تناولته النصوص الدينية بالتأريخ، كقصة النبي يوسف مع إخوته حين ألقوه في البئر صغيرا، وكذا تعامل العرب في الجاهلية مع المولودات بالوأد والقتل خوفا من العار، أو ما سجّله التأريخ الإنساني من امتهان للأطفال في عهود الدولة الرومانية، أو تقديم الأطفال كقربان لآلهة بعض الثقافات القديمة، بل إن لبتير قد ذهب إلى أن العنف كان ضمن الركائز الأساسية في العملية التعليمية التي يحتاج الطالب فيها إلى الضرب المُبرِّح ليتعلّم دروسه ويتقنها[1].
غير أن العنف الأسري -أو التربوي- لم يكن لينشأ من العدم بلا أسباب، ذاتية أو موضوعية، تخلق هذه الظاهرة، وتصنع منها أداة للتقويم السلوكي، وغطاء لنحت الطفل داخل القالب الاجتماعي المرسوم له سلفا، وهو ما أدى إلى استثارة المجال التحليلي بجانبيه (النفسي والاجتماعي) تجاه الأمر، وتناوله على نطاق واسع أُفرِدت له الدراسات بسخاء.
في حين أن الأمر يتسع قليلا في تعريف العنف التربوي، ففي طرح أعدّه الباحث الزبير مهداد يقول "إن العنف عموما، والعنف التربوي على وجه الخصوص، ظاهرة اجتماعية لها جذور في الثقافة الاجتماعية السائدة والنسق القيمي المهيمن، وسائر مظاهر التنظيم الاجتماعي والسياسي المتحكم فيه"[4]. أو كما وصفه بيير بورديو[5] بنوع من أنواع العنف الرمزي الذي يستخدمه المجتمع -تحت رعاية الطبقة المسيطرة- لإعادة إنتاج الأفراد داخل قالب المواطن المُهيّأ مجتمعيا للاندماج في المجموع والانصهار داخل النظام.
أي أن كل مجتمع يمتلك "مشروعا اجتماعيا" يحوله إلى وسيلة من أجل تنشئة أفراده وفقا لما يخدم متطلبات هذا المشروع ويكيّفهم معه، وهو ما تتبناه المدرسة أو المؤسسات التربوية بشكل عام -حسب بورديو-، إذ هو عنف مُوجّه بصورة أكبر من ذلك الذي يتم بشكل أُسري أحادي بين الوالد وولده، والذي يحكمه اللاوعي بصورة طاغية، وهو الأكثر تأثيرا على الطفل لما للأسرة من أثر واسع عليه، كونها عالمه الأعمق ومحيطه الأول في دائرة الحياة، وهو ما ينقسم بدوره إلى فروع تتنوع في ممارسة سلطتها على مكونات الشخصية المادية والمعنوية للطفل.
رصدت الإحصائيات أن نسبة الضرر الجسدي البالغ، الناتجة عن عنف الوالدين، قد تتجاوز حاجز 60%، بواقع 30% لكسور العظام، و24% لإصابات الجهاز العصبي (فري بيك) |
في تقسيم ثلاثي للعنف القائم بين الطفل ومُربّيه يضع الطبيب النفسي، والأستاذ بجامعة الأزهر، علي إسماعيل ثلاثة محاور تقوم على أساسها الممارسات العنيفة في هذا السياق، وهي:
1- إساءة المعاملة الجسدية (العنف البدني)
وهو التدخل الفيزيائي من المُربّي لإلحاق الضرر بالطفل، أو هو "الحالة الإكلينيكية المتمثلة في إحداث إصابة عمدا في الأطفال عن طريق هجوم جسدي ناتج عن عدوان من الشخص المنوط به حماية الطفل ورعايته"[6]. فهو استخدام قصدي، وليس مصادفا، للقوة كجزء من تعامل الوالدين، أو من يقوم مقامهما، مع الطفل بغرض الأذى[7].
وقد رصدت الإحصائيات أن نسبة الضرر الجسدي البالغ، الناتجة عن عنف الوالدين، قد تتجاوز حاجز 60%، بواقع 30% لكسور العظام، و24% لإصابات الجهاز العصبي، و10% كنسبة للإصابة بالحروق الجلدية بمختلف درجاتها[1]. كما يحمل الإهمال الجسدي للطفل على عنف بدني من نوع آخر يتم تصنيفه على أنه "عنف بدني سلبي"[1] على خلاف ذلك الذي يُكسّر العظام ويختم بالحروق.
2- إساءة المعاملة الجنسية (العنف الجنسي)
وعلى اتساع تعاريفه يرى الكثير من المتخصصين أن تعريف شيستر وروزبيرج في دراستهما عن العنف الجنسي تجاه الأطفال هو التعريف الأكثر قبولا في هذا النطاق، إذ يعرفانه بـ "ممارسة النشاط الجنسي على طفل أو مراهق غير رشيد دون موافقته أو عن طريق انتهاك المحرمات الاجتماعية"[8].
كما أن هذا النوع لا ينحصر في الوالدين، وإنما يشمل كل من يكبر الطفل في نطاق الأسرة أو العائلة، وهو يتم عن طريق الاستعراض للفعل الجنسي أمام الطفل، أو التحرش به، أو الاعتداء الفعلي عليه باستخدام القوة كما يقول مرازك[9].
3- إساءة المعاملة المعنوية (العنف النفسي)
كما يرى جابارينو ورفاقه[11] أنه أحد صور خمس يحدث فيهن رفض الراشد للاعتراف بقيمة الطفل، أو مهاجمته لفظيا بالسباب أو التحقير من شأنه ومقارنته بالآخرين، بالإضافة إلى عزله عن مجتمعه بما يؤثر على اكتسابه للخبرات الاجتماعية، وكذلك تشجيعه على الإفساد والسلوك المنحرف، ثم يُفرد للإهمال تفصيلا طويلا يبيّن فيه كيفية حدوثه "بدنيا" عن طريق إهمال الرعاية الصحية للطفل أو عدم إمداده بحاجاته الضرورية من المأكل والملبس، و"عاطفيا" عن طريق حرمانه من العاطفة الظاهرة والتقدير والإطراء، أو من خلال إهماله "تربويا" بحجب المنبهات السلوكية عنه مما يُفشِله في الاستجابة الاجتماعية بطريقة مناسبة، مُسببا لنقص في النمو العقلي والانفعالي والمعرفي لديه.
لا يتوارث الناس الأموال فقط. هكذا يرى كابلان وزملاؤه في دراستهم[12] التي تقضي بأن 90% ممن يمارسون العنف تجاه أبنائهم قد فعلوا ذلك إرثا عن آبائهم الذين عنّفوهم من قبل. وفي دراسة أعدتها الباحثة المصرية فاطمة حسن وآخرون[13] على مجموعة من الأُسر بمحافظة الإسماعيلية، وجدوا أن الآباء الذين تعرضوا للعنف في طفولتهم يمارسون الأمر نفسه على أبنائهم بما يفوق غيرهم باثني عشر ضعفا (7 أضعاف للعنف البدني، و5 للمعنوي).
التقارب الشديد الذي يحدث بين الرضيع ومن يرعاه يقدم نموذجا أوليا للعلاقات اللاحقة، فتتولد لدى الطفل خبرات تتوقع الحصول على هذا الاهتمام وقت الحاجة
بينما توصل أجيلاند ورفاقه[14] إلى أن 26% من الأمهات اللاتي أصابهن العنف في طفولتهن امتنعوا عن تمريره لأبنائهم، في مقابل 43% من الآباء كرروا الأمر ذاته[15].
وتنقسم النظريات المفسرة لسبب هذا الانتقال إلى عدد من الأطروحات المتباينة، حيث يرى فيليب باركر[16] أن اللاوعي في الأبناء يحتوي على النموذج الأبوي الذي يجب أن يكون عنيفا، وهو ما يشرح تبنّيهم لهذا النموذج حين يصبحون آباء.
على الجهة الأخرى تقف نظرية بولبي[1] بتفسيرها العميق القائل إن التقارب الشديد الذي يحدث بين الرضيع ومن يرعاه يقدم نموذجا أوليا للعلاقات اللاحقة، فتتولد لدى الطفل خبرات تتوقع الحصول على هذا الاهتمام وقت الحاجة، وهو ما ينعكس عند الطفل المحروم من الاهتمام في طفولته بالصورة التي تفقد الثقة في الفوز به عند الأزمات، ومن ثم تنهار قدرته على بذل ما افتقده هنا، فيلجأ إلى العنف المعنوي ضد أبنائه دون وعي.
وعن السمات الأساسية للأسرة الراعية للعنف يظهر أثر التعليم بقوة، حيث وُجِد أن العنف كأسلوب عقاب يحقق العلامة الكاملة بين الأمهات الأميّات، بينما تستخدم 85% من الحاصلات على الشهادة الابتدائية الوسيلة نفسها، في مقابل 44% لصاحبات المؤهلات المتوسطة، و41% للجامعيات اللاتي يمتلكن العلامة الكاملة في الأساليب التشجيعية للطفل[17].
تلعب الضغوط الاجتماعية التي تتعرض لها الأسرة والتهميش الذي تتعرض له -نتيجة للظروف السياسية- دورا محوريا في توجيهها نحو الحل الأسهل في تقويم السلوك
كذلك تلعب الحالة الاقتصادية المتردية دورا حقيقيا في رفع التوازن من موضعه وتفعيل الاضطراب النفسي عند الوالدين، والتي يراها الزبير المهداد المحرك الأساسي للبناء الثقافي في المجتمع، فكلما اضطرب الاستقرار الاقتصادي اختلّت البنية الثقافية وطغى الحل الحاد على المشهد[18]، فالأسرة الفقيرة أكثر عنفا وأقل صبرا مع أبنائها من الأسرة الميسورة، وهكذا.
إلى جانب هذا تلعب الضغوط الاجتماعية التي تتعرض لها الأسرة والتهميش الذي تتعرض له -نتيجة للظروف السياسية- دورا محوريا في توجيهها نحو الحل الأسهل في تقويم السلوك، حيث يرى بليسكي أن ما يحدد إيذاء الطفل هو "خلل التوازن بين الضغوط التي تتعرض لها الأسرة ومصادر التدعيم المتاحة، فكلما ازداد حجم الضغوط بأنواعها عن التدعيم المتاح تزداد احتمالية حدوث العنف"[19].
"يقول الأب: أنت تذبح وأنا أسلخ، أنت تقتل وأنا أدفن، لك اللحم ولي العظم. هذه الأمثال تؤكد للطفل بشكل قاطع أنه لا مفر له من الخضوع للعنف والقسوة، وأن جسده مستباح للضرب، وكرامته مستباحة للإهانات والشتائم، ولا مجال للتفكير في تدخل أي شخص لحمايته"[20]، بهذا التعليق يحلل الباحث الزبير مهداد العلاقة التبادلية بين الأسرة -متمثلة في الأب- والمنظومة التعليمية -بمثال المُعلِّم- نحو قولبة الطفل في إطار محدود، وهو الإطار الذي تفرضه الطبقة المسيطرة في نظرية بورديو في كتابيه "العنف الرمزي" و"إعادة الإنتاج"، لإعادة تشكيل الإنسان -الطفل- داخل هيئة المواطن المطلوب لموافقة النموذج القائم في المجتمع.
وهو العنف الذي يرى عبد الكريم بكار[21] الأسرة فيه كالسندان الذي يؤازر المطرقة، فهي تضع له اللمسة الأخيرة من خلال تكسير العظام والسلخ والدفن إذا ذبح المُعلِّم وقتل واستأسر باللحم. "فإذا كانت المؤسسة التعليمية وظيفتها الأساسية الحفاظ على الهيكل الاجتماعي فإنه ينبغي على المُدرِّس، حسبما تفرضه التقاليد التربوية، أن يعلم الطفل ويروضه على الطاعة والامتثال واحترام الأبوين والسلطات"[22] عن طريق القمع السلطوي والعنف والتهديد كما هو مأثور في نطاق الأسرة[23].
وعن تلك النظرة التربوية للطفل يقول الزبير إن نوع العلاقة التربوية التي يكوّنها المدرسون مع التلاميذ تتأسس على الصورة النمطية والأحكام المسبقة التي كوّنوها عن أنفسهم وطبيعة وظيفتهم التربوية وعن الطفولة وطبيعة الشخصية الاجتماعية، فهم يرون أنفسهم ممثلين عن المجتمع الذي يخوّلهم بتهيئة هؤلاء الأطفال وفق خطته، وأن شكل المعاملة اللائقة هنا "ينبغي أن يعتمد على الإكراه والعقاب والترويض العنيف".
ولأن العنف سلوك قوامه إنكار الآخر وتبخيسه، وعدم الاعتراف به كقيمة مساوية للأنا تستحق الحياة والاحترام -حسب الزبير أيضا- فإن الطفل داخل المنظومة يتحول من كونه إنسانا يحمل حق الاختيار وتقرير المصير، بل وتبادل المنفعة التعليمية، كما يقول جاك رانسيير[24]، إلى قاصر عديم الفعالية ذي طبيعة فاسدة، وأن دور التربية إصلاح هذه الطبيعة الضالة وتطويعها داخل البناء الاجتماعي، وهو ما تقوم به المؤسسة التعليمية/الترويضية من جهة واضحة لخدمة من يحتاج إلى تنميط المجتمع[25]، وما تقوم به هذه الفئة المقولبة للمجتمع بصورة خفية حين يرى المواطن/الأب نفسه عاجزا اقتصاديا ومجتمعيا عن أي شيء، فيلجأ إلى استرداد كرامته من أبنائه بعنف مضاد[26].
ويرى كل من مان وديرموت أن الكثير من الأطفال المارين تحت العصا يكتسبون آلية عدوانية في التفاعل مع الأمور الحياتية، حتى بعد أن تتوقف الممارسة العنيفة عليهم[28]. كما أن الطفل قد يلجأ إلى إجراءات الدفاع البدائية كالإنكار (إنكار حدوث الاعتداء)، والإسقاط (إسقاط الاعتداء في اللاوعي)، والانشقاق (نسيان هذه الخبرة تماما) حتى يستطيع الطفل الاحتفاظ بخياله الذي يصور له أنه يمتلك والدا جيدا[1].
لكن ينبّه الطبيب النفسي علي إسماعيل على أن احتمالية ممكنة لفشل الانشقاق والإسقاط في إخفاء هذه الخبرة التي يحاول الطفل إنكارها فيصيبه الخلل في تصنيفه للأفراد وحصره في صورة جامدة: إما الكل جيد وإما لا، وهو ما يخلق بداخله الخوف والرهبة من الآخر[29] بالدرجة التي تسهل التحكم به وتطويعه كما ذهب التفسير السابق عن دور مؤسسات التطويع في صياغة الإنسان على هذا النمط.
وفي دراسة بعنوان "الوحدة النفسية وعلاقتها بمفهوم الذات" التي ترى أن "ثمة خبرة شعورية مؤلمة يعيشها الفرد نتيجة لشعوره بافتقاد التقبل والحب والاهتمام من الآخرين، بحيث يترتب على ذلك العجز عن إقامة علاقات اجتماعية مشبعة بالألفة والمودة والصداقة الحميمة، فيشعر الفرد بأنه وحيد رغم كونه محاطا بالآخرين"[30]، وهو ما اصطلح عليه بالوحدة النفسية التي تمتاز عن الانفراد النفسي بكونها أمرا إجباريا لا يختار المرء فيه لنفسه الانعزال، بحسب ما تقوله الدراسة نفسها.
والسؤال: هل يحمل الأمر، في النهاية، من الإيجابيات ما قد يُرى أثره في بحر السلبية المُغرِق؟ وهل كانت التشوهات اللانهائية التي تتسع لها نفس الطفل المُمارس ضده كل هذا العنف، بأشكاله المتباينة، عبارة عن أثر جانبي لحل مفيد؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه خللا لا يحمل الاتزان؟ فمن عدوانية تهدد التماسك المجتمعي والسلم العام، إلى حالة اعتمادية تتلاشى معها استقلالية الفرد، وصولا إلى عزلة نفسية تقتصه من مجتمعه وذاته: يغيب دور الإنسان داخل جماعته الإنسانية، ويتلاشى أثره الإيجابي في صنع قرارها، بل ويساهم في تمرير العنف كحلٍّ تتوارثه الأجيال في تقويم بعضها البعض.
فلو كانت الإحصاءات -المذكورة سلفا- تشير إلى تناسب الممارسة العنيفة عكسيا مع مقدار الوعي والتعليم، فهل تلعب التوعية العلمية والدينية دورا حقيقيا لإرجاء العنف -كحل أخير- عند تقويم السلوك، فلا يلجأ المربي إلى الأشد إذا كان الأخف يحقق المطلوب؟ وإن كان، فالسؤال سيبقى: كيف يمكن أن يحدث ذاك؟
___________________________________________