التهجير عبر التاريخ
يعد التهجير القسري جريمة مكتملة الأركان، بل من أبشع الأحداث التي يمكن أن تحدث للبشر جميعاً في التاريخ البشري برمته، وخصوصاً في هذا العالم المعاصر، فالتهجير يجبر المواطنين على ترك موطن عيشهم الطبيعي التاريخي الحميم بالإكراه. (4)
وقد سادت البربرية، العالم في فترات متقطعة أثناء الحروب والكوارث، سواء تلك التي تأتي من الطبيعة، فتخلف دماراً تجبر الناس على الرحيل، أو تلك التي صنعها البشر أنفسهم عبر إشعال الحروب والحرائق وفتح أخاديد للموت، وهنا: هاجر الإنسان إما عبر الرحيل طوعية ولكن بسبب آثار الحروب والكوارث، فراح يبحث عن مأوى آمن وزاد يكفيه ولأهله مخلفاً وراءه أهله وأرضه وذكرياته وكل ما يتصل بحياته، أو ترحيل قسري، أجبر هو على ترك أرضه وأهله والمكان الذي ارتبط به خلال فترة طفولته وحياته بالقوة، إلى مكان آخر.
التهجير في العصر الحديث
يُصّنف الفكر السياسي الحديث عالمياً أعمال التهجير القسري للبشر من مواطنهم وحواضرهم الطبيعية بكونها «سياسة نازية». والنازية تعني بالمفهوم السياسي الحديث «العنصرية القومية أو العرق النظيف». وبالتالي: فكل السلوكيات السياسية والأفعال الحكومية والفردية من قبل الجماعات التي تتعلق بالتهجير العرقي والديني هي أعمال وأفعال «نازية» ضد قوانين وأعراف الأمم المتحدة.
كما أن التهجير القسري للبشر عن مناطق سكناهم ومصادر عيشهم الطبيعي يُعد من الجرائم القانونية حسب اللوائح التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة، وإعلان حقوق الإنسان عام 1948م.(5)
وقد شهدت عدد من بلدان العالم تهجيراً قسرياً فضيعاً، فشهد الفلسطينيون تهجيراً قسرياً من أرضهم منذ نكبة 1948م على يد الكيان الإسرائيلي، ولا زالت تلك المعضلة تؤرق أصحاب الحق في حلم العودة إلى بلدهم وأرضهم حتى اليوم. كما شهدت العراق تهجيراً مماثلاً في فترات متلاحقة من تاريخه القديم والحديث، وقد شهد اثناء الاحتلال الأمريكي 2003م وبعده نزوحاً وتهجيراً قسرياً غير الخارطة الديمغرافية للبلاد، ومثله جرى في عدد من دول الربيع العربي، من سوريا وهي الأكثر بين باقي الدول من مثيلاتها العربية، على يد عصابات النظام، إلى ليبيا، فقد حصل تهجير قسري كبير داخل المدن، وأخيراً اليمن.
التهجير القسري في اليمن
يمكن القول: "إن تاريخ الإمامة الممتد منذ ظهور الإمام الهادي الرسي في جبال صعدة (245هـ - 298هـ) وحتى نشأتها المستأنفة على يد حسين بدر الدين الحوثي (1959-2004م) اتسمت مناطق النفوذ للإمامة وحفيدتها بالهجرة والتهجير القسري؛ بسبب الحروب الداخلية التي كان يشعلها الأئمة والتي لم تتوقف مطلقاً، كما هي اليوم مشتعلة منذ بروز هذه الجماعة إلى الحياة السياسية 2004م.
وإلى جانب الترحيل القسري شهدت اليمن في مراحل من حكم الإمامة مذابح وفضائح كما هو الحال مع السفاح عبدالله بن حمزة (1166م – 1217م) ضد فرقة المطرفية والتي أبادها عن بكرة أبيها، وقتل الآلاف منهم كبارهم ونسائهم وصغارهم، فطالهم التنكيل بما يصعب تخيله. (6)
التهجير القسري لسكان دماج
فعل الحوثيون باليمنيين ما فعل أجداهم من الأئمة الزيدية، فالتهجير الذي حصل لسكان دماج مطلع يناير/ كانون الثاني 2014م نقطة بارزة في سلوك الحوثيين، وسيبدأ بعده التهجير يأخذ شكلاً مختلفاً، وسيطال عدد من المحافظات اليمنية، فمن خمس سنوات، لا يزال الباب مفتوحاً للنزوح القسري حتى اللحظة.
وكما أن تهجير سكان دماج كان التدشين لبداية عهد جديد من آثار الحرب المدمرة، فقد كان الانقلاب على الدولة والسيطرة على العاصمة صنعاء (سبتمبر/ أيلول 2014م ) نقطة مركزية أيضاً في تعميق الحرب داخل اليمن وعلى محيطها الإقليمي، وما ستفضي إليه من مآسي سيكون التهجير القسري واحدة من ملامح تلك الحرب لا كلها، وستمد إلى محافظات كثيرة. وهنا: لن ينحصر هذا الفعل الشنيع على الحوثيين وحدهم، بل ستشترك معهم قوى أخرى، تحاول أن تفعل ذات الشيء وزيادة أيضاً.
التهجير القسري بعدن
بدأ الحزام الأمني بعدن المدعوم إماراتياً أولى اعماله في التهجير في عام 2016م، وطالت التهجير مواطنين يمنيين ينتمون لمحافظات أغلبها شمالية، وبسبب الضغط المجتمعي الكبير – حينها - تجاه تلك الأعمال فقد توقف بعد أشهر وترك أثاراً وجراحاً غير قليلة.
يذهب عدد من المحللين السياسيين على أن الإمارات الدولة العضو في التحالف هي وراء هذه الأعمال، أو بمنعى أدق هي المستفيد منها لعدد من الاعتبارات يصعب حصرها والتوقف عندها كاملة؛ كونها تمهد للانفصال وتلك رغبة تعلوا كل الرغبات الأخرى، وقد أعلن ذلك أكثر من سياسي إماراتي بوضوح.
عودة التجهير في عدن
عاد التهجير القسري للسكان اليمنيين في مدينة عدن من جديد بعد حوادث تفجيرات أودت بحياة العشرات تبناها الحوثيون والقاعدة وداعش في وقت متزامن، وبدأ التهجير يطال أبناء مدينة تعز وباقي المحافظات بدعم وإشراف من القوات الإماراتية، وبتنفيذ من الحزام الأمني الممول إماراتياً، وكانت حوادث التفجير مادة هذه الأعمال الإجرامية ووقودها.
يمارس التهجير القسري للسكان بعدن في تحدي صارخ للقانون الدولي، ولقوانين البلاد النافذة التي تجرم مثل هذه الأفعال، ويسير الحزام الأمني ومعه الغوغائيون على ذات الطريق التي سار عليها الحوثيون من قبل، وهي جرائم لا تسقط بالتقادم، أو يمكن أن يغفلها النسيان.
التهجير في القانون الدولي
يعرف القانون الدولي التهجير القسري: بأنه إخلاء غير قانوني لمجموعة من الأفراد والسكان من الأرض التي يقيمون عليها، وهو يندرج ضمن جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.
وقد اعتمدت المحكمة الجنائية الدولية تعاريف عدة للجرائم، من بينها جريمة التهجير القسري، وذلك من قبل جمعية الدول الأطراف في نظام روما الأساسي للمحكمة. (1)
وجاء في المادة 7 الفقرة (د): "ترحيل السكان أو النقل القسري للسكان الذي يشكل جريمة ضد الإنسانية".
وأركان تلك الجريمة على النحو التالي:
1- أن يرحل المتهم (2) أو ينقل قسراً (3) شخصا أو أكثر إلى دولة أخرى أو مكان آخر بالطرد أو بأي فعل قسري آخر لأسباب لا يقرها القانون الدولي.
2- أن يكون الشخص أو الأشخاص المعنيون موجودين بصفة مشروعة في المنطقة التي أبعدوا أو نُقلوا منها على هذا النحو.
3- أن يكون مرتكب الجريمة على علم بالظروف الواقعية التي تثبت مشروعية هذا الوجود.
4- أن يرتكب هذا السلوك كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين.
5- أن يعلم مرتكب الجريمة بأن السلوك جزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين أو أن ينوي أن يكون هذا السلوك جزءا من ذلك الهجوم.
هامش ..
1- جاء ذلك في دورتها الأولى المنعقدة في نيويورك خلال الفترة من 3 إلى 10 أيلول/سبتمبر 2002م.
2- مصطلح “قسراً” لا يشير على وجه الحصر إلى القوة المادية وإنما قد يشمل التهديد باستخدامها أو القسر الناشئ مثلا عن الخوف من العنف والإكراه والاحتجاز والاضطهاد النفسي وإساءة استخدام السلطة ضد الشخص المعني أو الأشخاص أو أي شخص آخر أو استغلال بيئة قسرية.
3- ترادف عبارة “الترحيل أو النقل القسري” (Deported or forcibly transferred) عبارة “التهجير القسري” (forcibly displaced)..
4- "التهجير القسري في التاريخ البشري" – من مقالة للكاتب العراقي علي عبدالعال.
5- المصدر السابق.
6- المطرفية، فرقة زيدية تنسب إلى مؤسسها مطرف بن شهاب، وهو من أعلام أواخر 400 هـ وأوائل 500هـ، ومن شيعة الإمام الهادي يحيى بن الحسين، وأتباع مذهبه في الفروع. وتعرضت المطرفية للإبادة بشكل ممنهج خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين في اليمن.