يقول الدكتور محمد القباطي(مدير مستشفى مأرب) إن وباء الكوليرا المنتشر في اليمن خلال الأشهر الثمانية الماضية، والذي أصاب حوالي 800 ألف شخص وتسبب في موت أكثر من ألفي شخص، يأتي في المركز الثالث او الرابع في قائمة الأمراض الأكثر انتشارا في مأرب مؤكدا :"لا توجد أي أصابه هنا بالكوليرا وليست المشكلة الأسوأ بالنسبة لدينا " ،مضيفا "معظم الوفيات ناتجة عن الألغام الأرضية".
ظل وادي مأرب الصحراوي ،الواقع على بعد 172 كيلومترا شرق العاصمة صنعاء، خط مواجهة في الحرب الاهلية لعدة أشهر. في بداية العام 2015 قامت ميلشيات الحوثي بزرع عشرات الآلاف من الألغام الارضية على الطرقات وفي الحقول والحدائق حيث ما يزال الخط الأمامي الذي يمتد من 35 إلى 100 كيلومتر خارج المدينة مزروعا بالألغام التي تحصد أرواح الجنود والمدنيين على حد سواء . يقول الدكتور محمد "لدينا 120 سريرا فقط وكلها ممتلئة , ويمكن انت ترى ذلك بنفسك في الطابق الثاني!"
يقول الدكتور القباطي "نحن ندرب متخصصين لهذا العمل" ، مضيفا " ننجز كل شيء بأنفسنا هذه الأيام", واثقا أن الأطراف الصناعية سيكون لها مستقبل في مأرب.
يعتبر المستشفى الصغير على حافة الصحراء محل تناقضات، حيث يتقلب المزاج العام بين حالة من الرعب والأمل. وهو ما يعكس صورة عامة في هذا الجزء من البلد . والحقيقة التي تتخطى وجود المستشفى ،عمل الأطباء ذوي الخبرة هنا، والكهرباء التي يمكن الاعتماد عليها، وبقاء نسبة الإصابة بالكوليرا منخفضة بسبب إمدادات المياه النظيفة: كل ذلك بفضل النهوض المذهل لمدينة مأرب من معقل للإرهاب إلى المدينة الأكثرازدهارا في اليمن؛ من منطقة نائية إلى منطقة تجذب الشركات واللاجئين والخبراء والبنوك من جميع أنحاء البلاد. مأرب مشغولة بالعمل.
مع بداية سقوط اليمن نهضت مأرب.
في العام 2011م تظاهر مئات الآلاف في شوارع اليمن ، كما فعلوا في جميع أنحاء الوطن العربي، مطالبين بأسقاط نظام الدكتاتورية. وفي نهاية العام، وافق الرئيس علي عبد الله صالح على التنحي بعد أكثر من 33 عاما في السلطة.
وخلفه نائبه عبدربه منصور هادي في انتخابات رمزية نوعا ما نظراً لأنه كان المرشح الوحيد، وكان عازم على حفظ الاستقرار اثناء الفترة الانتقالية وعلى المساعدة في التسوية بين الطرفان المعارضان. يذكر ان عدة حروب كانت قد اندلعت بين الجيش والمتمردين الحوثيين الشيعة في شمال اليمن منذ عام 2004، في حين كانت في الجنوب الحركة الانفصالية في الجنوب تدفع نحو الانفصال من شمال اليمن والذي توحد في دولة واحدة عام 1990.
كان الرئيس السابق صالح، الماهر في تغيير التحالفات، يقوم بتدوير العجلة ليعود إلى السلطة من جديد. وعلى الرغم من انه قام بشن حروب ضد الحوثيين لسنوات، إلا أنه يتحالف معهم في الوقت الراهن . كما بقيت وحدات النخبة من الجيش موالية له. وفي صيف عام 2014، لاقت الاحتجاجات التي نظمها الحوثيين تأييداً كبيراً بعد إعلان الرئيس هادي رفع الدعم عن المشتقات النفطية تحت ضغط من صندوق النقد الدولي .
وفي يناير 2015، سيطر الحوثيون وبتحالف مع صالح على العاصمة صنعاء. وكرد على هروب الرئيس هادي من صنعاء بعد سيطرة الحوثيين وصالح، أطلقت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة في 26 مارس 2015 "عملية عاصفة الحزم"، التي كانت في بدايتها ضربات جوية على القواعد العسكرية في المقابل زودت إيران الحوثيين بالصواريخ والألغام.
المردود الإيجابي
تبقى مدينة مأرب. فأطلال معبدها الشهير ذو الأعمدة الرباعية، لازال شاهداً على عاصمة مملكة سبأ القديمة قبل 3000 سنة. وكما هو الحال الآن، فقد كان للمدينة مكانتها بسبب موقعها الجغرافي المهم. وحتى في العصور القديمة، زودت مياه سد مأرب المدينة والأرض المحيطة بها ولا يزال منسوب مياه السد مرتفعة إلى اليوم.
إن القوافل على امتداد طريق البخور الذي ساعد في ازدهار مأرب قد اختفت منذ فترة طويلة, ولكن و ليس بعيداً عن المدينة ،تنتج شركة النفط الحكومية صافر 1900 طن من الغاز الطبيعي والديزل والنفط الخام يومياً لمحطات توليد الطاقة التي تعد المصدر الوحيد للبلاد ، مع نسبة 20٪ من العائدات تذهب إلى السلطات المحلية بالمحافظة.
بعد انتهاء القتال بين الحوثيين ومناصري الرئيس هادي في أواخر عام 2015، ظهر نوع من تأثير الدومينو الإيجابي هنا: جاء ما بين 1.5 و 2 مليون نازح من جميع أنحاء البلاد إلى مأرب مع عدم وجود أي علامة على تراجع التدفق اليها. كثير منهم فقراء، وبينهم أيضاً رجال أعمال ، فضلا عن أطباء مثل الدكتور محمد القباطي ومحامين وصحفيين وفنانين، هربوا خشية الاعتقالات التعسفية من قبل الحوثيون في صنعاء والحرب والقاعدة بالإضافة الى الفساد، والتي جميعها تجر بقية البلد أكثر فأكثر نحو الكارثة.
وعلاوة على ذلك، بدأ الأثرياء الذين غادروا مأرب منذ عقود بالعودة. ومن بينهم محمد زبين، عضو مجموعة زتكو ,وهي شركة قابضة للتجارة والبناء تعمل في جميع أنحاء الشرق الأوسط. غادر المدينة عندما كان في التاسعة،و درس في مدرسة كامبردج بلندن، وألتحق بالجامعة الأمريكية في دبي. " لماذا كان عليا أن أبقى؟"يسأل. "كيف كانت سمعة مأرب قبل 20 عاما؟.
حتى قبل عامين، "لم نكن نحلم بالاستثمار هنا"، كما يقول. ولكن مع التدفق الهائل للنازحين، بدأت أسعار العقارات والممتلكات في الارتفاع. تم تأسيس مئات الاعمال التجارية الجديدة، من أعمال البناء إلى مصنع لتعبئة مياه الشرب، وكلها تحتاج إلى ايدي عامله. مواقع البناء في كل مكان.
أمضى والد محمد واثنان من اعمامه بعض الوقت في مراقبة الوضع في مسقط رأسهم السابق. وكانوا يقومون منذ وقت طويل باستثمار أموالهم كمقاول شريك مع مجموعة هيونداي الكورية الجنوبية، وفي مشاريع تشييد كبرى مثل محطة الطاقة النووية في أبوظبي.و في نهاية المطاف رأى أربعة من آل زبين أن مأرب أصبحت منطقة استثمار مناسبة. وقد وضعوا الآن خطة لبناء "مدينة سبأ"، وهي منطقة جديدة تماما تمتد بمساحة6.5 كيلو متر مربع على الأرض وتضم 1200 وحدة سكنية، وثلاثة مراكز تجارية، ومباني مكتبية وفي مجال الصناعة. مستبعدين استثمار طرف ثالث، حيث ويعتزمون الاعتماد كلياً على رأس مال يقدر بربع مليار دولار، مخصص في الأساس للتنمية.
يقول محمد زبين، الذي انتقل من دبي إلى مأرب في أغسطس: "سنحتاج الآلاف من عمال البناء". معترفاً انها خطة جريئة،وأنهم يستفيدون من الحرب أيضاً ."حتى لو تم تحرير المدن من الحوثيين أو تنظيم القاعدة، فإن معظم اللاجئين لن يعود"، حسب قوله . "بسبب أن الفساد الذي لن يتغير وحالة العجز عند القوى المحلية الأخرى ," وعلى المقابل من ذلك، يرى أن سلطة محافظة مأرب مستقيمه ونزيهة.
تغيير تدريجي
رجل واحد يعود له الفضل في استفادة المدينة من الفوضى بدلا من الغرق فيها, محافظ محافظة المحافظة المعين منذ العام 2012 م، سلطان العرادة، البالغ من العمر 59 عاما، ويرتدي نظارات سميكة .يعتبر العرادة أحد أهم زعماء القبائل في المنطقة. وقد واجهت عائلته تحديات ظهرت في العقود الأخيرة دون أن تفقد سمعتها. يقف إلى جانبه قبائل مأرب القوية، التي لا تريد الخضوع للحوثيين أو أن يتم استهدافها من قبل الولايات المتحدة بدعوى تعاطفها مع القاعدة. كانت القبائل دائماً العمود الفقري للسلطة في جبال وصحاري اليمن وكان دورها أقل حضوراً في أوقات السلم، لكن دعمها لكل حكومة لا يمكن الاستغناء عنه.
العرادة عضو في البرلمان لفترة طويلة, شخصية حذرة لكنه يتحرك وفق خطوات استراتيجية .
أقام الجيلين الأخيرين من عائلته علاقات وثيقة مع العائلة الملكية في السعودية. المحافظ موال للرئيس هادي.
بفضل العرادة تأتي افضل العقول اليمنية إلى مأرب حيث يشكلون ثلثي أساتذة الجامعة - الذي ارتفع عدد طلابها من 1200 إلى 5000 - من الخارج. إلى أي مكان يذهبون؟
نصف الطلاب من النساء. وقد وفرت سلطات المدينة حافلات لنقلهن كوسيلة لتشجيع الأسرالمحافظة على السماح لبناتها بالالتحاق بالجامعة حيث تزدحم فيها قاعات المحاضرات، ويتعلم الطلاب والطالبات معاً في كراسي جديدة داخل الحرم الجامعي. يشكل الطلاب الذكور غالبية في قسم الهندسة ، في حين يهيمن حضور الطالبات المحجبات بالنقاب في اقسام العلوم التربوية. تجلس أحد الطالبات ،19 عاما، إلى جانب أمها ،38 عاما، التي لطالما رغبت منذ فترة طويلة أن تصبح في نهاية المطاف معلمة. تقول "زوجي يعارض هذا ."نحن نتشاجر كل ليلة، لذلك أحاول أن أجعله سعيداً حتى يتركنا وشأننا".
غادر الصحافي الشاب رشيد المليكي العاصمة صنعاء في مارس الماضي بعد اختطاف الحوثيين العديد من الصحفيين و اخفاءهم في السجون دون محاكمات . يعمل رشيد الآن مقدما لبرنامج جديد على اذاعة مأرب يسمى "بيتنا" ويغطي قضايا الأسرة، إنه مثير للجدل دون شك.
"بدأنا الحديث عن مواضيع غير ضارة مثل كيف يغير الفيسبوك الأسر والمشاكل بين الآباء والأبناء" ويضيف رشيد: "يدعمنا المحافظ ولكن ينبغي علينا أن نمضي قدما بعناية، نخطط حاليا لتقديم برنامج حول رغبة شابة في الدراسة لكن والدها ضد ذلك، وسوف نطلب من الضيوف والمتصلين إبداء رأيهم دون ان ننحاز لأي شخص لان ذلك حساسا للغاية ".
يقول سلطان العرادة في اجتماع في مقر المحافظة ان ما المهم هو تحقيق التوازن السليم في اليمن، ولهذا السبب من الصعب جدا التفاوض مع الحوثيين على حل. موضحاً " استيلاءهم على السلطة لم يكن انقلابا فقط ضد المؤسسات اليمنية بل ايضا ضد هوية البلد " ،مضيفا "يصر الحوثيون على أن حفيد الإمام الحسين وحده الذي يمكنه حكم البلاد، لكن ذلك لن يحدث أبدا".
في مأرب يمكن ملاحظة عدم اكتراث اليمنيين من جميع الانتماءات السياسي بالأزمة الإنسانية الجارية في بلادهم في الساعة 9 من كل صباح عندما تصل السيارات المحملة بالقات من أرحب ، شجرة القات منبه خفيف ينمو فقط في المرتفعات في مناطق سيطرة الحوثيين. ولأن البلاد كلها تمضغ القات يسلك سائقو السيارات طرقاً ملتويه وغير مباشرة لعبور الخطوط الأمامية الواقعة بين الطرفين. يبقى مضغ القات بشكل جماعي بعد الظهيرة هي العادة المشتركة في وقت أن اليمن ينهار وينتشر الجوع و وباء الكوليرا.
تستهلك زراعة القات الماء في المناطق التي كانت تنمو فيها المحاصيل الغذائية . ويزرع القات لانه أكثر ربحا من زراعة الحبوب الغذائية بالرغم من أنه أحد أسباب انتشار الكوليرا و نقص المياه.ولايزال التجار الجدد ورغم انخفاض القوة الشرائية للشعب، يشترون اطنان من القات يومياً، بما في ذلك كبار القادة في جيش هادي والحوثيين. وكما يؤكد مبتوري الأطراف في مستشفى الدكتور القباطي أنه لن تكون أي هجمات دون تعاطي القات.