في مساء يوم الأحد الذي يوافق ٢١ يونيو/ حزيران من عام الحرب ذاك، وتحديدا قبل 15 يوم من سقوط مدينة عدن في يد تحالف الاستبداد والدين والقبيلة، قدم أمجد للحياة. لحظة ميلاده هذه ستطبع حياته كلها بطابعها، سواء عندما يتعلق الأمر بروحه المحاربة التي ظلت تكبر معه، أو بالأقدار الغامضة التي ظلت تترصده باستمرار.
بالنسبة لأسرة أمجد الصغيرة، فإن قدومه في ذلك التوقيت، كان بمثابة عزاء كبير حصلت عليه بينما باتت تشاهد عدن وقد أصبحت تستباح وكل الأحلام الكبيرة والصغيرة تتحطم دفعة واحدة.
عندما يقال أن أمجد كان عبارة عن وردة نبتت وسط جحيم الحرب، فهذا دقيق إلى حد بعيد. لطالما أن الورود عادة ما ترتبط بلحظات الضعف الشديد أو الفرح الغامر. كان والد أمجد على اتصال مباشر مع أحداث ووقائع تلك المرحلة التي بدأت مع تحقق الوحدة اليمنية في العام 1990، حيث انتعشت الآمال والثقة بالمستقبل كما لم يحدث من قبل، لكن بالتدريج آخذ كل شيء يذوي ويخفت ليتوج في النهاية بتلك المأساة التي صنعتها الحرب وما ترتب عليها من نتائج.
لعل قدوم أمجد في مثل تلك الظروف، ساعده في مقاومة كل الأوقات العصيبة التي بدأت مع اندلاع الحرب وبالتأكيد لم تتوقف مع توقفها، فقد كان واقع ما بعد الحرب عبارة عن حرب متواصلة ولكن بأدوات وأشكال مختلفة.
ظل أمجد يكبر داخل المنزل الصغير، تفاصيل حياته، كانت متوهجة كتوهج لحظة قدومه، فمثلا بعد أيام قليلة من ميلاده، وضعت عائدة (أخته الكبيرة) مع والدها، قائمة بمائة أسم. ثم بدأ فرز الأسماء في جو عائلي يمكن وصفه بالديمقراطية المنزلية. وقع الاختيار في النهاية على اسم أمجد.
بعد سنوات، عبر أمجد عن إعجابه باسمه، قائلا: لو لم يكن أسمي أمجد، لفضلت أن يكون كذلك. وكان لحياته أن حملت دلالة الاسم: المجد حيا، والخلود ميتا. فكل تلك التفاصيل الصغيرة والكبيرة التي عاشها، سوف تصبح بعد مغادرته للحياة على ذلك النحو الظالم، هذه التفاصيل سوف تصبح، سفرا للعائلة وكتابا للأصدقاء. الكثير منها أيضا سيغدو دليلا للنضال، وعنوانا لكل ما هو ملهم ومقرون بالتحدي.
لقد كانت حياة حافلة بحق، وتلخص واحدة من أهم المراحل التي عاشها اليمن. مرحلة كان أمجد بمثابة انعكاس شديد التمرد عليها. أجبرته الحياة على خوض نزالات كثيرة، فقاتل بروح المحارب وخرج منها منتصرا. لم يمت أمجد، فروحه ودمائه لا تزال تقاتل وتحقق انتصارات جديدة.
***
في عدن وفي سائر محافظات الجنوب، صحيح أن الحرب توقفت وسكتت المدافع، لكن المعركة ظلت متواصلة بطرق أخرى، فقد آخذ جو الحرب يلتهم مدينة عدن ويصبغها بلون القتامة.
كل ما عرف عن تقدمية عدن وثقافتها وتنوعها، أصبح مجرد ماضي أعزل. فالتغيير المتسارع الذي شهدته المدينة، لم يترك لسكانها فرصة لالتقاط أنفاسهم وبما يجعلهم قادرين على الأقل في الامساك بخيوط الحكاية التي قد يرغبون روايتها لصغارهم. عن عدن التي كانت وعدن التي كان من المفترض أن تكون. وعدن التي أصبح عليه الحال. لأن الحرب التي لم تتوقف كانت قد شملت هؤلاء أيضا، جعلتهم أما مطرودين من وظائفهم أو متقاعدين إجباريا، أو موصومين بالخيانة والردة وفي كثير من الأوقات بالكفر.
هذا الجو الجنائزي، كبل عدن لسنوات طويلة، وجعلها مغلقة أمام تحولات العصر، منسلخة عن تاريخها. ووسط هذه القتامة عاش أمجد وترعرع وظل يتفتح أمام أعين أسرته وفي ضمير والده الذي أصبح بمثابة صديق حميم له.
فرغم صغر سنه، إلا أنه كان لا يتوقف عن إثارة الأسئلة، ولعل هذا ما جعل الأب يتوسم ـ ومعه حق في ذلك ـ أن هذا الفتى سيكون له مع أبناء جيله دورا رائدا في إعادة تفعيل كل الأحلام الخاملة أو بناء أخرى بهية على أنقاض تلك الآمال التي كانت الحرب قد دمرتها وأحلت بدلا عنها كل ما هو رجعي وقاتم سواء على شكل سياسات أو مشاريع عنف وتجهيل وتطرف.
لكن أمجد كغيره من فتيان عدن وشبابها اليافع، لم يكن بمنأى من الرياح التي آخذت تعصف بالمدينة وناسها، وهي نفس الرياح التي آخذت تعصف بالبلد من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه. لهذا تجاذبته الأهواء في سنواته المبكرة، مرة بالاقتراب من الصوفية التي دخلت دائرة الصراع الثقافي والتي تعد المذهب الديني الأقرب لروح عدن والملتصق بتاريخها، ومرة بالاقتراب من السلفية الطارئة على المدينة والتي وفرت لها الحرب بيئة إحباط ملائمة للانتشار وأيضا غطاء سياسي.
لقد أفسح المجال عن سبق إصرار وترصد لانتشار قيم جديدة، أصبح معها الأباء مفصولين عن الأبناء، أن لم يكونوا مدانين في نظرهم، بفعل تأثير الثقافة الجديدة. لهذا لم يكن من الغريب أن أبناء المناضلين القدامى، أصبحوا هدفا لجماعات الدين التي كانت بمثابة رديف لنظام الفيد والقبيلة. في الحقيقة كل أبناء عدن وأجزاء واسعة من الجنوب كانوا قد وقعوا تحت تأثير الإحباط بفعل انتكاس مشروع الوحدة الذي لطالما تغنوا به طويلا.
أمجد كغيره من فتيان عدن وشبابها اليافع، لم يكن بمنأى من الرياح التي آخذت تعصف بالمدينة وناسها، وهي نفس الرياح التي آخذت تعصف بالبلد من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه.
صحيح أن أمجد لم يسلم من التأثر بهذا الجو السائد، لكنه بالرغم من ذلك كان صاحب تجربة فريدة.
في البداية عندما كان لا يزال في مرحلة التعليم الأساسي، ألتحق بإحدى الجماعات الصوفية التي كانت تقيم حلقات دينية في احد مساجد مدينة كريتر التي يسكن فيها. أراد ان يقوم بنفس الشيء الذي يقوم به زملائه في المدرسة. أصبح يلبس قميصا أبيضا، ويعتمر قباعة بيضاء، ويواظب على حضور دروس تلك الحلقات التي يقيمها الصوفيون في مسجد الجيلاني.
عندما كان يعود للبيت كان يتحدث ويناقش بلغة صوفية تعلمها في المسجد.
مثلا كان دائما ما يؤكد، أن أركان الدين أربعة وليست ثلاثة. وهي: الإسلام، الإيمان، الإحسان، وعلامة الساعة. لكن إصراره هذا يقترن بطبيعة ثانية: عدم تقبل الأشياء الغامضة كما هي، فهو يحب أن يثير النقاش حول كل ما يستعص عليه فهمه، ودائما كان لديه الكثير من الأسئلة. وعندما فشل في العثور على إجابات تسعفه المواصلة، حدث انه بنفس الطريقة المفاجئة التي ذهب بها إلى مسجد الصوفيين، توقف ايضا فجأة عن الذهاب.
حينها والده كان قد آخذ يراقب الأمر عن بعد دون أي تدخل يذكر. لكن أمجد بعد إكمال دراسته الثانوية، سيعود لقراءة كتب الصوفية، وسيشعل مع والده في المنزل وأصدقائه في كل مكان يذهب إليه، الكثير من النقاشات، خصوصا عن ابن عربي وفلسفة التأويل.
بالطبع الذهاب إلى دروس الصوفيين، لم تكن التجربة الوحيدة من هذا النوع في حياة أمجد، فبعد سنوات، ألتحق بمخيم صيفي نظمته إحدى الجماعات السلفية. كانت المخيمات الصيفية والرحلات هي الطريقة الأكثر جدوى في استقطاب اليافعين والشباب. لسنوات طويلة ظلت الجماعات السلفية تنظم مثل هذه الأنشطة، ومن خلالها تنجح في جذب أعداد كبيرة إلى أنماط حياتية متشددة بعضها يصبح مدخلا لامتهان العنف. ولأنه لا وجود لأنشطة عامة سوى هذه المخيمات والرحلات فقد ظلت تستثير دافع الفضول عند الأجيال الجديدة.
في المخيم الوحيد الذي سيشارك فيه أمجد، حدث أن الجماعة السلفية القائمة عليه، آخذت تعرض على المشاركين، مقاطع فيديو تتحدث عن الجهاد. كانت مشاهد العنف والدم صادمة. لهذا بمجرد انتهاء المخيم انتهت علاقة أمجد بهذه الجماعة وبسائر الجماعات الدينية.
***
بالطبع ثمة عوامل كثيرة، ساعدت أمجد على الإفلات من الفخاخ التي ظلت منصوبة لكل من هم في مثل عمره خلال تلك السنوات التي أعقبت الحرب. لقد نجح في أن يتخذ لنفسه مسارا خاصا، بعيدا عن المسارات التي أجتذبت رفاق طفولته وأصدقاء دراسته. لعل أبرزها انه ينحدر من أسرة مثقفة، ومناضلة، وثانيها أنه ترعرع في مدينة كريتر التي ظلت محتفظة بروح عدن، بالرغم من كل الاستماتة في تغيير طابعها الديمغرافي المتنوع.
كان لدى هذه المدينة البركانية مخزون هائل من طاقة المقاومة، وهي المدينة التي يسكن فيها أمجد، وكبر في “حوافيها” ثم أن سنوات مراهقته كانت قد تزامنت مع صعود الحركة الاحتجاجية السلمية في الجنوب، بالرغم من أن هذا الأمر لم يمنع كثير من الشباب في عدن ومحافظات جنوبية أخرى من الانزلاق إلى مربع الجماعات الدينية التي بات بعضها يأخذ منحى أكثر تطرفا ودموية.
ظلت علاقة أمجد بوالده قائمة على الصداقة، فهو دائما ما يلجأ إليه للبحث عن إجابات تشبع فضوله الذي لا ينتهي. وهو فضول يوحي بنوع من الغرابة لطالما أنه كان يتمحور في الغالب حول القضايا العامة، أو حتى قضايا فكرية أكبر من سنه.
ففي إحدى المرات، يقول والده: أثناء ما كنت أتجول برفقته وحيدين بالقرب من شواطىء صيرة، طرح علي واحدا من أسئلته المعتادة والتي تتعلق بالشأن العام: كم حصل المؤتمر على مقاعد في البرلمان وكم حصل الإصلاح؟
كان ذلك بعد يوم واحد من إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية عام 2003، وكان عمر امجد حينها يقترب من التاسعة.
يقول الأب: أجبته عن عدد المقاعد التي حصل عليها الحزبين. لكنه أنتقل إلى سؤال آخر: ونحن كم حصلنا؟
ـ من تقصد بنحن؟ تساءل الأب
ـ رد أمجد: الحزب الاشتراكي؟
أعجبني كثيرا سؤاله، وأحزنني في ذات الوقت، بالنظر إلى أن صالح أراد بتلك الانتخابات أن تكون استكمالا لحربه على الاشتراكي ومعاقبته. يقول الأب وهو يستذكر هذه القصة: مع ذلك أجبته بصدق، ولكن بطريقة تجعله فخورا بنفسه لكونه يطرح مثل هذه الأسئلة.
أما اهتمامه بالقضايا الدينية ذات الطابع الفكري، فهي تلك القصة التي يرويها والده أيضا، عندما كان يطالع دروسه في مقرر التربية الإسلامية للصف السادس. فقد توقف عن القراءة فجأة ملتفتا إليه سائلا:
ـ هل الله سيعاقب الصينيين واليابانيين والكوريين و… لأنهم لم يكونوا مسلمين؟
يقول الأب رديت عليه متسائلا: ما رأيك أنت؟
ـ لماذا سيعاقبهم الله بينما الإسلام لم يصل إليهم. فما ذنبهم. ثم أستدرك: سيعاقبهم على الأفعال التي تضر بالناس، مثل القتل والسرقة والكذب.. أما الصلاة والصيام فلن يعاقبهم عليها.
رديت عليه.. نعم. اعتقد الأمر هكذا
مثل هذه التساؤلات، ظلت توحي بالاهتمامات المبكرة لأمجد والتي ستشكل في سنوات لاحقة منطلقا لنشاطاته السياسية والمعرفية، لكن أمجد كان أيضا طفلا، كغيره، عنيدا ومشاغبا، غير أن علاقة الصداقة التي جمعته بوالده، كانت توفر له مجالا لمناقشة المشاكل الخاصة التي تواجه أسرته. وأحيانا توجيه النقد اللاذع للأب لأنه يقوم بإهدار نقوده القليلة على شرب الشاي وتدخين السجائر. (أكيد مصروفك قد شربت به ماء ودخان؟)
في إحدى المرات، بعد أن أطلق تهكمه المجازي هذا على والده والذي يحمل طابع اللوم، أكد له الأب أنه لا يزال محتفظا بمصروفه (لا لا. لا زال معي. خذه لك).
آخذ أمجد النقود، وبعد برهة قصيرة أمسك يد والده متسائلا: لماذا لا نبيع البيت ونستأجر بيتا آخر؟ نشتري باص ونجمع نجمع فلوس.. ثم نشتري بيت مرة أخرى.. سيكون لدينا باص وبيت؟
عندما تقدم أمجد بهذا المقترح كان لا يزال بعمر الثامنة. يقول الأب: قلت له بصرامة لا تهتم. أدرس فقط.
رد بدوره: أنت راتبك قليل.. فكيف ستدرسني!!؟؟
صادف أن هذا الحوار دار بالتزامن مع وجود أحد أصدقاء والد أمجد، وكان شخصا كبيرا بالسن، فأبدى استغرابه الممزوج بإعجاب من كلام الصغير. فآخذ يجتر نفسا وقال: اليوم فقط شعرت بالندم لأني لم أتزوج.