عزلة قاتلة
تتلاشى "فاطمة" بصمت ويذبل شبابها مع كل يوم تمر عليها في محبسها، تقلب بها صفحات عمرها، وتبكي مصابها الذي عزلها عن الناس وجعلها مدفونة على قيد الحياة، لا تسمع سوى السخرية والتهكم.
قبل هذه السنوات زفها والدها على الرغم من صغر سنها إلى منزل زوجها التي لم تدوم فيه الحياة الزوجية إلا للشهور، فمع أول مولود تعسرت ولادة فاطمة لساعات طويلة ، وحدثت المضاعفات التي غيرت كل حياتها، وحبستها بمنعزل عن الناس، وسلبت منها كل شيء جميل.
الناسور الولادي أو القاتل الصامت جعل فاطمة ونساء أخريات تنعزل عن العالم وتتوارى عن أنظار الناس خوفا من الفضيحة والشماتة، وجعل الأهل يخجلون منهن ويجبرونهن على عدم الاختلاط بالآخرين، فتقضي المريضة العمر تنتظر الموت وحيدة.
المرض عبارة عن ثقب أو شق بين جدار المثانة وقناة المهبل، وقد يتصل الثقب بالمستقيم بسبب ولادة متعسرة، أو كبر رأس الجنين، بالإضافة إلى عدم اكتمال نمو عظام الحوض عند الأم بسبب الزواج المبكر، حيث يضغط رأس الجنين بقوة على الحوض ويتدفق الدم في جدار المثانة والمهبل ويحدث تأكل للأنسجة و تموت ثم تتفكك بعد عدة أيام ليظهر أعراض الإصابة بالناسور خلال أسبوع، فتخرج الفضلات أو البول من المهبل لا إرادياً.
بحسب الدكتورة خوله اللوزي مديرة وحدة معالجة الناسور الولادي بمستشفى الثورة بصنعاء لـ " بلقيس " ، التي توضح أن هناك أيضا ناسور جراحي يحدث بعد عملية لاستئصال الرحم أو قيصرية وتظهر أعراض المرض مباشرة.
سجن أبدي
عندما هجر فاطمة زوجها توقعت أن تجد الحضن الدافئ في منزل والدها وبين أفراد عائلتها، لكنها صدمت بالقسوة التي قوبلت بها، وكأنها مذنبة بحق الأسرة، وانهارت أكثر عندما قرر والدها حبسها في غرفة صغيرة بلا تهوية ولا ضوء مع الدجاج، لا ترى فيها غير من يقدم لها الماء والطعام للحظات في أوقات محددة، ثم ينصرف تاركا لفاطمة الألم والحزن والوحدة التي ستوصلها يوما لفقدان عقلها في سجنها الأبدي.
عدم قدرة المرأة على التحكم بالفضلات والبول يشعر أهل المريضة بالخزي من الرائحة الكريهة التي لا تفارقها، فيلجئون إلى حبسهن بدلاً من الوقوف معهن ومساعدتهن بالعلاج وتقديم الرعاية الطبية" كما تقول اللوزي.
وبحسب الإحصائيات فقد تم علاج 308 امرأة منذ عام 2012 حتى شهر مايو الماضي، لكن اللوزي تؤكد أنه ما تزال نساء كثيرات مصابات بالمرض سجنهن الأهل خلف جدران العيب والفضيحة، والبعض منهم لا يعرفون إمكانية علاج للمرض عبر عمليات جراحية ورعاية طبية لعدم وجود توعية، وتقول إن خطر الناسور ما يزال يحدق بكثير من الحوامل لغياب الولادة الآمنة والمتابعة الصحية.
ولا توجد في اليمن سوى وحدتين لمعالجة الناسور الولادي، الأولى في مستشفى الثورة بصنعاء والثانية بمستشفى الصداقة بعدن تم افتتاحهما عام 2010م بدعم من صندوق الأمم المتحدة للسكان الذي يتحمل نفقات العلاج وتكاليف النقل للمريضة، لكن هناك حاجة إلى مراكز علاج أكثر .
ميلاد جديد
أخيراَ جاء الأمل لفاطمة مع زيارة فريق للتوعية بمرض الناسور الولادي، الذي عرف القصة من الأهالي، لكن والدها رفض فكرة العلاج خوفاً من العار، ومع إصرار الفريق طلب من الفريق تسجيلها بإسم آخر غير اسمه، لكنه رضخ أخيراً، ووصلت فاطمة إلى صنعاء لتلقي العلاج، لتعود لحياتها، وتولد من جديد.
كانت فاطمة أوفر حظا من أمينة التي عاشت سنوات من حياتها قبل أن تتوفى بمحافظة تعز تتهرب من نظرات الناس وألسنتهم، وتعزل نفسها عن الجميع منذ ولادتها الأولى حتى أصيبت بالجنون ، وما تزال هناك نساء تتدارى عن العيون ، وتموت بصمت.