تجهش ام عارف بالبكاء كلما ذكرت ابنها او تحدثت إليها نساء القرية عنه، وهن يسألنها: هل وجدوا جثة ابنك ودفنوه؟، وهو السؤول المرهق منذ ثلاث سنوات، والذي يقع على الأم كوجع لاحد له، ولا حيلة لها سوى أن عيونها تغرق بالدموع وتقول "رحمة الله إذا مات، وإذا هو عايش الله يرده لي أحضنه قبل أن أموت".
ومنذ 5 سنوات من الحرب كثير من قتلى طرفي الحرب في اليمن (الحكومة الشرعية، ومليشيا الحوثي)، قتلوا في المعارك بالجبهات لكن لم يتم دفنهم، ولم ترى أسرهم حتى رفاتهم لتطمئن على دفنهم، لكي تنتهي غصة الحزن بشكل تدريجي، غير أن عذابات تلك الأسر تتضاعف وقلوب الأمهات تتقطع حُزنا وكمداً وتدفن جثث أولادهن في ذاكرتهن.
قصة عارف
"عارف" شاب عشريني ينحدر من محافظة إب (وسط اليمن) بعد تخرجه من كلية التجارة في العام 2015، التحق بالجيش الوطني في مأرب وبعد تدريبه لأشهر، التحق في صفوف المقاتلين بجبهة نهم، ويصفه رفاقه في الجيش أنه "كان مستبسل للقتال وشجاع ومِقدام في المعارك".
في أكتوبر 2016 شن مع رفاقه هجوم على مواقع الحوثيين واقتحموها، لكن هجومهم فشل بهجوم مضاد وسقط عدد من القتلى والجرحى، وقال أحد رفاق عارف الذي أصيب بجواره "أنه وجد جثة عارف مرمية على الأرض قتيلاً لكنه فشل في أخذها بعد أن انسحبوا من الموقع" وتلك هي الرواية الوحيدة والأخيرة التي على إثرها أعلن مقتله واعتباره شهيداً في بيانات الجيش.
وقال جندي في الجيش الوطني لـ "بلقيس" -طلب عدم ذكر اسمه- أن الموقع الذي قتل فيه "عارف" ما زال إلى الآن تحت مرمى النيران ولا أحد يستطيع الوصول إليه سواء من الجيش أو مليشيا الحوثي، منذ ذلك الحين وكانت أول محاولة للتقدم قبل ثلاث سنوات.
والموقع العسكري في "جبل الكحل" بجبهة نهم -المتجمدة المعارك فيها- وهو المكان المفترض لتواجد بقايا رفات "عارف". وفقا للجندي.
تشابه الأوجاع
في جبهات القتال يحارب المقاتلين بكل بسالة، ويقتل منهم ويجرح المئات، يختلفون في كل شيء إلى حد أن كل طرف يتمنى أن ينتصر ويقتل كل مقاتلي الطرف الآخر والتي لا تبعد بينهم سوى مسافات بسيطة، غير أن أسرهم تتوحد بالأوجاع وتنهمر الدموع نفسها والخوف، والإنتظار القاسي للعودة المستحيلة.
"محمد" أيضاً مقاتل في صفوف مليشيا الحوثي شاب لم يتجاوز العشرين من عمرة، أكمل امتحانات الثانوية العامة والتحق بجبهات القتال في محافظة الجوف(شرق اليمن)، جاء خبر مقتلة إلى أسرته قبل أن تظهر نتيجة الثانوية، عقب هجوم من الجيش الحكومة بمساندة التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات.
تم إعلان فقدانه أواخر عام 2015 عقب سيطرة الجيش على مركز المحافظة وكان "محمد" يتمركز مع المقاتلين الحوثيين في "مفرق الجوف"، بإحدى المواقع الخلفية باعتباره ما زال غير مؤهل لأن يكون في جبهة القتال الأمامية، لكن السيطرة كانت أوسع ومسنودة بغارات جوية كثيفة.
"محمد" الشاب الوحيد لوالديه ترك مساحة كبيرة في أسرته ولازالت تتسع مع "الأمل" الباقي لدى أسرته أنه سيعود، وهذا بسبب أن مليشيا الحوثي أخبرت أسرته أنهم لم يعثروا على السلسلة المربوطة على يديه ضمن سلاسل جثث القتلى"، على اعتبار أنه ومن المفترض أن يكون على قيد الحياة، لكن منذ ذلك الحين لا جديد سوى تأكيدات مقتلة.
ما بين الحزن والإصرار على الامل، يظل قلب "أم محمد" موجوع ودموعها جارية وحزنها الطويل حي يبعثر مزاج أسرتها الصغيرة منذ أربع سنوات، تلك الآلام لا تنتهي بالعزاء أو الإصرار على رفع معونات الأسرة ببطولة المقاتل وشجاعته، حيث لا يزال طفلها يصغر بعين قلبها الكبير ما بين الألم والوجع الكبيرة، والأمل الذي يبدو مستحيلاً بعد نحو نصف عقد من الزمان.
مرارة الذكرى
تجول ذاكرة الأمهات في تفاصيل مقتل ابنائهن وجثثهم التي أصبحت رفات بالجبال وعظام تالفة تحللت في أماكنها، ويزداد نحيبهن وبكائهن، كأن خبر مقتلهم جاء للتو، وتتحدث "أم عارف" في لحظة ضعفها ويأسها المرير من أن ابنها يمكن أن يدفن قائلة "أتمنى دفن كما جميع الناس"، وتلك أُمنية من فائض الوجع الذي راكمته السنين.
وما تزال الكثير من الأسر تعاني من عدم حصولها على جثث أبنائهم القتلى، فبعضهم تحولت إلى رماد جراء غارات جوية، والبعض الآخر ترك في مواقع القتال عقب هزيمة الطرف الذي يقاتل في صفوفه، ووفقاً لاتفاق الاسرى في ستوكهولم والذي أشار "ان هناك جثث محتجزة لدى الطرفين".