لكن يتم تبرير كل القذرات والخيانات بالاستناد الى هذه المقولة فهذا يوضح معناها عند من يؤمنون بأن السياسة قذارة وخيانة وحسب.
السياسة هي فن صناعة المستحيل. والسياسة ليست وسخة وفهلوة ولف ودوران. بل هي أسمى مهنة على الاطلاق كون مصير ملايين البشر يتوقف عليها.
انظروا مثلا كم من الحب والعرفان سوف نحمل للطبيب الذي نصادف انه يتعامل مع مرضاه باخلاق وانسانية وتفاني لانقاذهم, وقارنوه بطبيب يتعامل مع مرضاه بتعالي وبدون انسانية ومن اجل أن يحصل على نقودهم فقط. أي بغض سيناله هذا النوع الأخير؟
اذا كان هذا يتعلق بمهنة الطب التي يتوقف عليها مصير افراد معدودين فإن مهنة السياسة التي يتوقف عليها مصير الملايين والملايين أما أن نبجلها او ننبذها بحزم مضاعف تباعا للأشخاص الذين يمتهنونها والتيارات التي ينتمون لها, وبالنظر الى طبيعة المصالح التي يعبر عنها هؤلاء وما يسعون لتحقيقه.
في الواقع قليلا ما أسمع الناس يتحدثون عن مهنة الطب وعيوبها, ونادرا ما نصادف حبا او بغضا لطبيب بعينه. لأن هناك مستوى شبه ثابت حول ما يتوقعوه الناس من مهنة الطب. بينما في السياسة سنظل نسمع عن ابطال مخلصين دائما تمكنوا من انقاذ ملايين البشر وجعل حياتهم افضل. وسنسمع عن كثير من المجرمين والقتلة الذين امتهنوا السياسة من اجل تحقيق مصالح ضيقة وكان من شأن ذلك ان دمر حياة شعوب بحالها.
السياسة هي فن صناعة المستحيل. والسياسة ليست وسخة وفهلوة ولف ودوران. بل هي أسمى مهنة على الاطلاق كون مصير ملايين البشر يتوقف عليها.
اذن يمكن القول أن معظم الناس تهتم بالسياسة بفعل ذلك الحدس الداخلي الذي يظل يشعرهم بأهميتها وما سيترتب على عدم اكتراثهم بها, ولأنه لا يوجد سياسين من النوع الذي يلامس مصدر ذلك الحدس من الطبيعي ان تتوه الناس وتظل تبدل قناعاتها اتجاه هذا السياسي او ذاك هذا الحزب او ذاك باستمرار وكأنها تبدل جواربها. هي بذلك (وهذا يشمل اكثر الناس تأدلجا) تظل تبحث عمن يستطيع تهدئة قلقها وتسكين مخاوفها والأهم حمل امالها وتطلعاتها على محمل الجد والاحترام.
الحاجة للسياسة والاهتمام بها عند البشر, يشبه احتياجهم البيولوجي للجنس.
ولا يزال يحيرني فعلا ان عواطف البشر تتفتح في سن المراهقة وكذلك حاجتهم للجنس, بالتزامن مع تفتح اهتمامات غالبيتهم بالسياسة في ذات السن المبكرة.
مع اكتمال النمو البيولوجي للشخص يبدأ يستشعر حاجته للجنس والحب. لكن ايضا هذا يعني انه دخل عالم المسئولية والتي تظل ناقصة بدون ان تآخذ السياسة الحيز الذي تستحقه. اما بالطريقة المناسبة او بما توحي بها المصلحة الواعية او حتى من خلال استلهام ثقافة القطيع وما يوفره هذا من أمان بالنسبة للشخص الذي يعيش في بيئة مضطربة ومتخلفة.
غير ان الثقافة السياسية السائدة والتقاليد المتبعة والاهم خلفيات من يمتهنون السياسة وطبيعة المصالح التي يعبرون عنها, تجعل السياسة أشبه بماخور قذر ونادرا ما يكون هناك من يحترمون مهنتهم ويستطيعون جعلها افقا رحبا.
هؤلاء الأخيرين (من يحترمون مهنتهم) سواء كانوا اشخاص او تيارات او أحزاب هم من يجب البحث عنهم واعادة تعريف السياسة من خلالهم, وأي فن ممكن يمكن ابداعه بهم ومعهم, او مستحيل سوف يعمل الجميع من اجل صناعته. لأن السياسة وفقا لهذا المفهوم تقوم على دراسة حاجات الواقع وممكنات اشباعها, لكنها في المعنى النهائي وفي الأساس تبقى فن صناعة المستحيل. فن انقاذنا الآن وضمان تفتحنا غدا وابقاء الشراع منفتحا دائما نحو الافضل.