لقد امتلكت ثورة فبراير أهميتها، من كونها استوعبت مختلف القضايا اليمنية الراهنة، وفي مقدمتها القضية الجنوبية التي عبر عنها الحراك الجنوبي منذ العام 2007 وقدم الجنوبيون تضحيات كبيرة وعزيزة على مدى سنوات لتكون ثورة فبراير بمثابة مصب ونقطة تحول في مسار القضية الجنوبية. كما عبرت عن قضية صعدة بكل ما تحمله من غموض وذلك من خلال التأكيد على أن الحروب الستة في صعدة ما هي إلى دليل دامغ على فشل النظام الحاكم في إدارة شئون البلد بما يحفظ السلام والأمن الاجتماعي.
لكن هناك أبعاد أخرى تجعل من فبراير محور ارتكاز في المسار التاريخي اليمني الحديث، وذلك من خلال ارتباطها العضوي بحركة الجماهير التي اندلعت في عدد من البلدان العربية، وهزت النظام العربي القائم وخلخلته. فقد كانت ثورات ما أطلق عليه بالربيع العربي بمثابة بركان هز المنطقة ليعلن عن اقتراب موعد ولادة العربي الجديد. لقد اثبتت حركة الجماهير وما تركته من آثار لا تزال قائمة وتعتمل إلى اليوم، أن الأنظمة العربية القائمة تواجه أزمة شرعية بعد أن خذلت شعوبها على مدى عقود طويلة. وكانت ثورة فبراير في اليمن هي لحظة تجديد انتماء للهوية العربية الجامعة وقضايا الأمة. كما يحسب لفبراير أنها أعادت تعريف حجم الإشكالية اليمنية لجهة عمق ارتباطها بدول الخليج العربي وسياساتها المجحفة في الغالب. لكن أيضا بعمق ارتباط مصالح اليمنيين بمصالح شعوب هذه الدول، حيث لا يمكنهم أن ينعموا بالأمن والاستقرار والسكينة ما لم يحسم الصراع في اليمن لصالح عموم الشعب وجموعه المقهورة وليس مراكز النفوذ والجماعات المعادية للشعب. وهو ما كان واضحا من اليوم الأول لانطلاق الثورة التي استلهمت إرث الحركة الوطنية، ليصبح اليوم أشد وضوحا.
وقبل أن نتطرق للإشكاليات التي واجهتها الثورة، لابد من الإشارة إلى أن الأحداث اللاحقة على تلك اللحظة التأسيسية ستظل مرتبطة بها لمدى زمني مفتوح، وهو ما حدث ويحدث إلى اليوم. فالتسوية السياسية في اليمن رغم تحايلها على المطالب الشعبية، إلا أنها كانت بمثابة اعتراف بأن الجماهير أصبحت مصدرا للشرعية.
فبالرغم من أن الثورة فشلت في بناء تنظيماتها الثورية، وبالرغم من عدم تبلور برنامج واضح لها يعبر عن تطلعات وقضايا الجماهير الواسعة، وبالرغم من تصدر الأحزاب السياسية ذات الطبيعة الإصلاحية تمثيل الثورة سياسيا، ورغم محاولات الإقليم في التحايل على الثورة وإنتاج تسوية مختلة، ثم بالرغم من الثغرات الواضحة التي سمحت للنظام القديم بأن يعيد بناء نفسه والشروع في قيادة ثورة مضادة بالتحالف مع جماعة طائفية وعلى أساس عصبوي، بالرغم من كل ذلك، فإن روح ثورة فبراير ظلت كامنة في أعماق الجموع المقهورة، وبمجرد ما استشعر اليمنيون خطر الانقضاض على المكتسبات الشحيحة التي تحققت، هبوا لمواجهة الثورة المضادة من خلال مقاومة شعبية عفوية اتسمت بالصلابة والعنفوان. بينما قوى الاستبداد والهيمنة التاريخية تهاوت الواحدة تلو الأخرى، وما تبقى منها بات تلاشيه مرهونا بتجاوز المأزق الجديد الذي وصلنا إليه بفعل المنظور القاصر للقوى السياسية وأيضا بقاء جهاز الدولة تحت هيمنة التركة الثقيلة للنظام البائد، سواء على مستوى الثقافة أو الممارسة.
بما أن القوى الثورية لم تنتظم بعد، وليس لها تنظيمات مستقلة وقيادة، لا مناص أمام طليعتها وقواها الحية سوى أن تعمل جاهدة على إصلاح المنظومة السياسية للشرعية بما يوفر إمكانية إعادة ضبط العلاقة مع التحالف وتبني رؤية موحدة تعبر عن تطلعات الجماهير الواسعة لاستكمال المعركة واستعادة الدولة اليمنية.
أمام المشهد اليمني القائم اليوم، بالرغم من ضبابيته، توجد حقيقة واحدة ساطعة، وهي أن ثورة فبراير بما استوعبته من نضالات وقيم، وبما تولد من رحمها من إصرار شعبي على المضي قدما، هذه الثورة هي مكتنز الطاقة اليمنية الخلاقة. أما تجذرها في حركة الجماهير فيجعلها صاحبة الحق الوحيد في تجاوز المنعطفات الحاسمة وفتح المجال أمام الجديد ليستمر في التدفق والتراكم ومن ثم التحول النوعي على طريق بناء نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي بديل. نظام يحقق لليمني تطلعاته، يحل قضاياه ويضعه على مصاف الانتقال إلى مستقبل حضاري يليق بتضحياته وبعمق تاريخه.
إذن مع كل مأزق جديد، ومع كل منعطف حاسم تعود الكرة لترمى في ملعب الثورة وقواها الحية. ولأن تنظيم القوى الثورية ولم شتاتها لا يزال العقدة الأبرز، ليس في اليمن وحسب ولكن على مستوى البلدان العربية التي شهدت ثورات وثورات مضادة – ولهذا أسبابه - فإن الفعل الثوري لا يزال مرهونا بالعفوية. وإذا كانت العفوية هي التعبير الأكثر صدقا عن رغبة الجماهير في انتزاع خلاص عادل، إلا أنه بعد سبع سنوات ونصف من الثورة وبالنظر إلى طبيعة الوضع القائم والمأزق الذي وصل إليه البلد، أصبح من المتعذر تقريبا التعويل على حركة الجماهير العفوية. على الأقل ليس بدون أن يكون هناك برنامج يرسم التكتيك المناسب ويتبنى استراتيجية واضحة، ثم انبثاق خطاب عام يقود الجماهير نحو معركتها ويدفعها لتنظيم صفوفها وجعل حركتها أكثر وعيا.
أصبح مطلوبا من طليعة الثورة ومثقفيها العمل على البدء في بناء برنامج للثورة. وذلك من خلال الشروع في بلورة الرؤى من مجمل الوضع القائم وفقا لاستراتيجية فبراير، والضغط من أجل تنفيذ هذه الرؤى، وفي نفس الوقت التصدي لمشاكل الجماهير وتبنيها ودعوتها للنضال من أجل حلها. وفي مستوى ثالث مجابهة كل فعل مضاد للثورة، سواء كان فعلا كاملا كما يظهر في حروب جماعة الحوثي ومحاولة فرض تصوراتها الرجعية للدولة والمجتمع بالقوة، أو كما تظهره أسرة صالح وشبكته ومن يدعمهم إقليميا، أو عندما يكون هذا الفعل جزئيا كما سيظهر في استرخاء الأحزاب السياسية التي قدمت نفسها كممثل للثورة وأوصلتنا لهذا المأزق، لكن هذا الفعل المضاد للثورة لم يعد جزئيا تماما، بل بات ينعكس على أداء الحكومة الشرعية والجهاز البيروقراطي الرث للدولة وهو أداء بات محكوما بالعجز والفساد والتنكر لتضحيات اليمنيين، ليس هذا فقط ولكن الشرعية أصبحت أيضا مسؤولة على نحو مباشر عن استمرار توسع رقعة التشظي ومهادنة تمدد القوى المعادية للشعب ولثورته، وكذلك ارتهانها وتبعيتها لدول التحالف العربي التي باتت تستثمر هذه الحرب لتقويض سيادة اليمن وأمنه واستقراره.
وبما أن القوى الثورية لم تنتظم بعد، وليس لها تنظيمات مستقلة وقيادة، لا مناص أمام طليعتها وقواها الحية سوى أن تعمل جاهدة على إصلاح المنظومة السياسية للشرعية بما يوفر إمكانية إعادة ضبط العلاقة مع التحالف وتبني رؤية موحدة تعبر عن تطلعات الجماهير الواسعة لاستكمال المعركة واستعادة الدولة اليمنية. إصلاح المنظومة السياسية للشرعية وفقا للمرجعيات سوف يوفر شروط إعادة ضبط العلاقة مع التحالف وكذلك سيوفر أرضية انطلاق صلبة لإعادة توحيد المجتمع وتوجيه كل الطاقات صوب استعادة الدولة.
إن التكتيك الثوري يفترض الحفاظ على الاستحقاقات التي تمثلها الشرعية وكذلك المرجعيات القانونية، وذلك من أجل حماية مسار التحول الذي بدأ مع ثورة فبراير، وبناء الأساس اللازم لاستكمال الخطوات الناقصة والمطروحة على جدول أعمال الثورة: بناء التنظيمات الثورية وبلورة برنامج الثورة، وانبثاق خطاب وطني جامع.
بالطبع لم يعد من الممكن المراهنة على إصلاح وضع الشرعية بمبادرة ذاتية منها أو بناء على ضغط دولي، هذا الأخير قد يحدث لكنه لن يعبر عن تطلعات اليمنيين ولن يوفر الحماية للمسار الثوري. لهذا أصبح الأمر مطروحا على طاولة القوى الثورية، التي عليها أن تتقدم بمبادرتها المدروسة لإعادة الأمور إلى نصابها والبدء في العمل الجاد على استنهاض مختلف قوى الشعب لتكون بمثابة حامل لهذه المبادرة.
الاستنهاض الشعبي رغم الظروف المحيطة ليس مطلوبا فقط من أجل إجبار القوى السياسية على الشروع في إصلاح وضع الشرعية المختل، ولكن أيضا يمثل مدخلا للبدء في محاولة إنجاز الخطوات الناقصة: التصدي للقضايا الملحة، البحث عن فرص للانتظام الشعبي، والشروع في بناء برنامج الثورة بالانطلاق من قضايا الناس الراهنة ومعها وكذلك القضايا التي كانت خلف اندلاع الثورة.