هذا ليس صحيحا. كل ما في الأمر هو أن الأزمة الثورية ألقت بمهام جديدة هذا العام عندما يتعلق الأمر بسبتمبر وكذلك بسائر الأوضاع التي نعيشها.
عندما أفقنا صبيحة 26 سبتمبر في العام 2014، وكان ذلك بعد خمس أيام من الصدمة التي لم يتخيلها أحد. حينها كان سبتمبر الذي لم نكن نعيره أي اهتمام في السابق، قد أصبح شبحا يخيم على حياتنا، شبحا مبجلا ويريد قول شيء أخيرا. مقابل كل تاريخ الاستعباد والظلم، كان لنا يوما مهابا، لا يستمد عظمته من جلالة الماضي، ولكن كما لم يحدث من قبل من تجدد كل معانيه ولمعان مكتنزاته العتيقة، ومن تلك الاطياف البهية المرتسمة في أفق المستقبل، ثم أن سبتمبر في ذلك العام كان أن مدنا بكل ما نحتاجه خلال تلك اللحظة بالذات: روح التحدي.
عشية سبتمبر التي أعقبت تلك الأيام السوداء، تداعى عدد من الشباب في صنعاء، ومن وسط الصدمة وهولها، قرروا عدم الاستسلام. أتفق الجميع وكنت واحدا منهم على إقامة فعالية تحي سبتمبر المغدور. وتحدد المكان في مقر الحزب الاشتراكي دون العودة لقياداته أو التنسيق معهم. في اللحظات الحاسمة يكفي أن تتخذ القرار الصحيح وتمضي.
كان اختيار مقر الاشتراكي كمكان للاحتفاء بسبتمبر ينسجم تماما مع روح اللحظة. نريد إشهار تحدينا الصارخ في وجه الواقع الجديد وما يمثله، ونريد أن نبني نقطة انطلاق جديدة ونرسل إشارات للمستقبل. فالاشتراكي هو أبن الحركة الوطنية التي واجهت الإمامة وحملت مشروع الجمهورية على كتفيها وضحت طويلا وكثيرا في سبيل الانتصار لهذا المشروع، كما أنه لا يمكن التصالح مع هذا الصمت المخجل الذي أصبحت تتسم به مخادع السياسة. ما يعني أنه لا يمكن السماح في تجريف هذا الحزب خارج تاريخه أو بعيدا عن المهام التي طرحتها الأحداث على طاولته.
مثل لنا الاشتراكي ساعتها المدلول السياسي الحديث الذي عركته السنوات والذي نحتاج استنهاضه في وجه الانبعاثات الماضوية. كان هذا ما نحتاجه ولدينا الوعي الكافي في ضرورة رسم حدود المعركة وتحديد أدواتها وكذلك شعاراتها بدقة.
في الصباح توافد جمع كبير من الشباب والفتيات، جمع من الرجال والنساء، إلى أمام مقر الحزب الاشتراكي في حي الصافية وسط صنعاء. جاء الاقتراح أن يقام الحفل في الشارع. ودون نقاش وافق الجميع على الفكرة. فهذا يضيف بعدا آخر للتحدي الذي لطالما كان المحرك الأبرز لنشاطنا والدافع من وراء إقامة هذه الفعالية.
ذلك الصباح كان ينتمي للأيام الأولى التي عشتها في ثورة فبراير. عندما يكون كل شخص يعرف ما الذي عليه القيام به. لا أوامر يمكن تلقيها ولا شيئا خاطئا يمكن اقترافه.
كل شيء في وقته وفي مكانه الصحيح. حينها لو أنك من خارج تلك الدائرة ولم يسبق لك أن عرفت ماذا يعني أن تكون الحركة منسجمة مع منطق التاريخ فلن تصدق أن كل هذا الذي تشاهده أمامك عبارة عن مشاهد ارتجالية.
سبتمبر لم يعد إلى مسرح التاريخ لمجرد أن خصومه عادوا، ولكن لأنه لا يزال يحمل الطاقة الكافية، المعاني الكاملة، وكل ما له علاقة بالمستقبل ونحتاجه في لحظتنا الراهنة
كان يبدو كل شيء متناسق وكأنه قد تم الإعداد لهذه الفعالية من أشهر طويلة.
حسنا لقد كان لي أنا أيضا دوري المتواضع. بدون أن يطلب مني أحدا ذلك، سهرت طوال الليل في مواجهة مباشرة مع إعاقتي المتعلقة بالتكنولوجيا.
بدأت بجمع الأغاني الوطنية في ألبوم داخل جهازي "اللابتوب" الذي أكتب عليه هذا المقال. لم يكن قد سبق لي قبل ذلك اليوم أن قمت بتحميل أغنية واحدة من الانترنت، طوال الوقت كنت اعتقد أن أمر كهذا صعبا، وأنا شخص علاقتي بالانترنت كانت ولا تزال سيئة.
في الصباح كانت الأغاني الثورية والوطنية التي جمعتها تبث والجميع يرقص على ايقاعها، كان هذا رائعا، وتلك الرقصات كانت تعبر تماما عما أردنا قوله في ذلك اليوم. فالرقص بوسعه أن يقول الكثير.
تلك الفعالية كانت بمثابة تدشين لاحتجاجات لن تتوقف، ليس في صنعاء فقط، ولكن في تعز وفي محافظات عدة، الأمر الذي كان له تأثير كبير في تهيئة الميدان أمام تشكل مقاومة مسلحة كان الاعتقاد بإمكانية تشكلها يدخل في باب المستحيل. فتحالف الثورة المضادة آخذ يهيمن على مفاصل الدولة، على جيشها وكل السلاح الذي تم شرائه على حساب قوتنا وصحتنا وتعليمنا، الإعلام أيضا، المثقفين الذين لطالما أعجبنا بكتاباتهم، بعض السياسيين... كل ذلك كان قد أصبح ضدنا، ويبدو أن الشعب أعزل تماما. كما أن مفهوم المقاومة المسلحة كان قد أحيط على مدى سنوات بكثير من الأوهام.
إذن في العام الأول، كان الاحتفاء بسبتمبر يحمل طابع التحدي. وتلك الفعالية التي أقمناها في الشارع كانت قد أقيمت في كل مكان تقريبا وبطرق مختلفة. في العام الثاني كان سبتمبر يعني الثقة لكونه جاء مقرونا بالانتصارات، أما في العام الثالث فقد حمل عند قطاعات واسعة نفس المدلولات السابقة مضافا اليها الرغبة في المعرفة كمهام ظل مؤجلا طوال الوقت، معرفة كل ما يتعلق بالثورة الأم, نجاحاتها واخفاقاتها, رموزها وادبها, كمقدمة ضرورية للتصدي للمهام التي ستطرح لاحقا. لكن قطاعات أخرى أرادت أن تستخدم سبتمبر كمنصة للمراوغة، وهي نفس القطاعات التي خانته أبشع خيانة.
هذا العام يأتي سبتمبر، وهو محمولا بالأسئلة. سواء تلك المتعلقة بتعقيدات الواقع الراهن وكيفية تجاوزها، أو تلك التي تتعلق بالمستقبل والتي ظلت لعقود طويلة أسئلة لا أحد يرغب في الإجابة عليها، وكان سبتمبر قد طرحها بداية وتكفلت السنين بانضاجها, بينما عدم الاجابة عليها كان احد الأسباب التي جعلت الماضي وتقيحاته يعودان إلى خشبة المسرح. لكن أيضا تلك الأسئلة هي من تجعل لسبتمبر كل هذا البهاء والروح المتجددة، لأن الإجابة عليها يعني في جزء كبير منه الإجابة على أسئلة الواقع القائم ومدخل أساسي لتجاوز تعقيداته.
سبتمبر لم يعد إلى مسرح التاريخ لمجرد أن خصومه عادوا، ولكن لأنه لا يزال يحمل الطاقة الكافية، المعاني الكاملة، وكل ما له علاقة بالمستقبل ونحتاجه في لحظتنا الراهنة. بمعنى آخر لا يزال يحمل الحكمة التي مفادها، انه لا يمكن التغلب على الماضي أيا كانت صوره إلا بمشروع ينتمي للمستقبل وقادرا على فتح الأفاق نحوه. دون إدراك هذه الحكمة فلا معنى للتغني بسبتمبر، ودون العمل بموجبها والانشغال بذلك فإن هذا يجعلنا ونحن نتحدث عن سبتمبر كمجموعة من الخرقى.
سبتمبر ليس ليلة قدر ولكن معلم ودليل نحو المستقبل.