لكل هذا مغزى محدد. الجماهير ليست معول هدم وتخريب كما يصور دائما، بل لديها حس سياسي عالي. لا تزال المعركة قائمة، وهي معركة وجودية، لكن الأوضاع متدهورة، والمعاناة تستفحل. إذن القرار هو بإشهار الغضب، لكن ضمن حدود المعركة وليس على الضد منها. بالرغم من كل شي لا يزال هادي يمثل رمزا لآخر شرعية في البلد. بعكس الحكومة التي لا أحد يعرف ما هي القواعد التي تأسست عليها. الشرعية مسألة مهمة وليست شيئا يمكن تجاوزه حتى عندما نكون في حالة حرب.
لم يكن هناك برلمان، يعطي الحكومة شرعية، لم تجرِ انتخابات، لم تجتمع الأحزاب السياسية وتقرر، وهي ليست حكومة حرب على أية حال. إذن كيف حدث هذا؟
لقد حدث بنفس تلك الطريقة عندما يقرر الشعب أنه أمام منعطف حاسم وأنه عليه التجاوز عن كثير من الأشياء التي تصنع كيف ما اتفق على أمل أن يعود الجميع ويصلحون الوضع بالتدريج. أي ما يمكن تسميته بشرعية اللحظة الطارئة. حيث غالبية الشعب يتخذون موقفا واحدا، وكان هذا ما حدث في بداية تفجر الحرب عندما انخرط المجتمع بكامله في مقاومة الثورة المضادة وانقلابها. لكن مرت الأيام تغيرت الظروف، لكن طريقة عمل الشرعية ظل على نفس الوتيرة، الأمر الذي يوحي بأن هناك استثمارات قذرة لقبول الناس وتقديرها للوضع الذي آلت إليه البلد. بينما كان يفترض إعادة مواءمة تلك الخطوات الارتجالية مع أبسط القواعد التي تقتضيها مسألة الشرعية، والأهم مع متطلبات الظروف بحسب تطورها وتغيرها.
إذن الناس في عدن تطالب بتغيير الحكومة فقط، وعرفنا السبب في ذلك، بينما في تعز تكظم غيظها، والسبب هو أن جماعة الحوثي لا تزال تحاصر المدينة، وهذا الاعتبار نفسه الذي حيد الناس وجعلها بلا رأي في الصراعات البينية التي تجري داخل المدينة.
إذن عند تحليل طبيعة المأزق الذي وصلنا إليه، بفعل عوامل كثيرة، لم يعد أمامنا سوى تحديد مكمن الخلل بدقة، ثم الشروع في المجابهة المسؤولة. لنتعلم من الجماهير مثل هذه الدروس التاريخية على الأقل.
بالطبع يمثل انقلاب الحوثي وصالح على الدولة والسلطة الشرعية، العامل الأبرز في وصولنا إلى هذا الخراب الذي أصبح وكأنه بلا نهاية، ولعل مواجهة هذا الانقلاب واستعادة الدولة هو الهدف الوجودي لليمنيين، خصوصا بعد الكلفة الباهظة التي قدموها خلال أربعة أعوام من الحرب. لكن هذا الأمر لن يحدث من تلقاء نفسه، لن يحدث بدون وجود برنامج واضح، وسياسة شجاعة وفعالة.
تتوسط الحكومة الشرعية أمرين: الأول وضع بائس ومتدهور في المناطق المحررة، حيث تزدهر الصراعات، وتتعدد الجماعات المسلحة المنفلتة، وحيث تتدهور الأوضاع الاقتصادية للناس ويستولي عليهم الإحباط. الثاني هدف كبير لا يمكن تحقيقه دون حل التناقضات وترميم الشروع وإعادة الثقة بالدولة والانتصار لرمزيتها، وإدارة التحالفات على النحو الذي يحفظ مصالح اليمن العليا ويحفظ كيانه وسيادته، لأنه بدون ذلك يصبح من الصعب الحديث عن استعادة الدولة وهزيمة الانقلاب، ما يعني أن بقاء هذا الوضع سوف يصل بنا إلى قلب الجحيم طالما أننا لا نزال نقبع على الحافة.
يمكن القول إن مصدر الخلل يتجلى بدرجة أساسية في الوضع الذي أصبحت عليه الحكومة الشرعية، وإذا كنا بصدد الحديث عن لجم الكارثة المحدقة، فيجب أن يكون حديثنا عن كيفية معالجة هذا الوضع، والذي يعود بدوره إلى اختلال وضع المنظومة السياسية برمتها. لهذا أصبح من الضروري إصلاح وضع المنظومة السياسية للشرعية. لتوفير شروط مواجهة تلك التحديات وإعادة توحيد المجتمع من جديد، ثم توفير شروط إعادة ضبط العلاقة مع التحالف العربي الذي تحول إلى عبء وعامل إضعاف للشرعية، وهذا من أكثر الأشياء غرابة طالما أن هذه الشرعية هي من وفرت لهذا التحالف الغطاء القانوني للتدخل في اليمن وحماية مصالحه، لكن هذا يحدث بسبب ضعف الشرعية نفسها وعدم وجود برنامج ومنظومة صلبة خلفها.
بدرجة رئيسية يحدث لأن الأحزاب السياسية تخلت عن دورها في حماية المرجعيات. إذا كانت المبادرة الخليجية لا تزال فعلا مرجعية فيجب الانطلاق منها وإعادة قراءتها وفقا للواقع القائم اليوم، وأيضا استلهام مخرجات الحوار الوطني لبلورة تصور واضح حول كيفية إدارة وضع الحرب والعلاقات القائمة في أثنائها، وليس الاكتفاء بالمشاهدة أو جني بعض المصالح الحقيرة.
أصبح من الضروري إصلاح وضع المنظومة السياسية للشرعية لتوفير شروط مواجهة التحديات وإعادة توحيد المجتمع من جديد، ثم توفير شروط إعادة ضبط العلاقة مع التحالف العربي الذي تحول إلى عبء وعامل إضعاف لها
الشرعية القائمة اليوم والمسلوبة الإرادة، تأسست في الأصل على ثورة شعبية. وما أنقذها من بين مخالب الثورة المضادة هو مقاومة شعبية. لكن هذه الشرعية حتى وهي تتمسك بالمرجعيات إلا أنها لم تعد مخلصة لها لا على مستوى الممارسة ولا على المستوى النظري. الأمر الذي أنتج اختلالا كبيرا، أصبح يهدد بتآكلها ويلقي بنا إلى أحضان المجهول.
علينا العودة خطوة للوراء فعندما تأسست هذه الشرعية فهي جاءت عبر مبادرة من خارج الفعل الثوري مستغلة عدم توفر الشروط الكافية لبناء بديل للنظام القائم وأيضا وصول الثورة إلى مأزق، غير أن الثورة كانت قد بذرت قيمها، وعبرت عن مشروعها الديمقراطي بوضوح.
إذن لابد من تحرك يستلهم تلك الإرادة البناءة التي تطرح كل شيء وتستوعب الجميع وتضع قطيعة مع سياسة الإقصاء والإبعاد وكذلك التربص الذي يبدو أنه أصبح عملا وحيدا للقوى السياسية مؤخرا. وهو تربص تحركه بعض القوى الإقليمية والدولية، لكنه يستند إلى تاريخ مثقل أصبح من الضروري وضع قطيعة معه، وإلى استحواذ قائم ومنظور قاصر لا يستطيع تقدير ما يعتمل عوضا عن القدرة على المجابهة المنفردة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يستند التربص إلى استبعاد متعمد وممنهج لبعض القوى وبطالة سياسية مقنعة. الأمر الذي يستدعي إنهاء كل هذه الإشكاليات بضربة واحدة. من خلال تبني سياسة جديدة ترتكز على المصالح العليا لليمنيين، وتضع نصب عينها استعادة الدولة كمشروع تاريخي وليس فقط مجرد استعادة المدن والمناطق الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي.
عندما وصلت الثورة إلى طريق مسدود جرى طرح مبادرة من خارجها وكانت القوى السياسية هي من تتصدر تمثيل الثورة، (مهم الإمعان في هذه النقطة)، اليوم طالما أن الشرعية والقوى السياسية وأيضا التحالف العربي وصلوا إلى مأزق حقيقي، إذا لم يسارعوا إلى وضع حلول حقيقية، وفقا لتلك القواعد التي صنعوها لأنفسهم والمساحة التي توفرت لهم، بالتأكيد لن يعجز اليمنيون عن إيجاد البدائل، لكن بخسائر مضاعفة سيكون دفعها بمثابة ضريبة التعلق بالأوهام. وهذا كثيرا ما يحدث في تاريخ الشعوب.