يعود السبب في ذلك إلى كون القبيلة كانت ذراع سلطوي لنظام الإمامة ظلت تستخدمها كأداة هيمنة وبطش ومن خلالها تمكنت من فرض سلطتها. لكن بمجرد اندلاع الثورة وانكشاف نظام الإمامة شعبيا، سارعت القبيلة لإعادة ترتيب وضعها ضمن التحول القائم للحفاظ على مصالحها التي كانت قد تمأسست وانبثق عنها رموزا قبليين ومشائخ وسياق هيمنة مفتوح، خصوصا أن القوى الجديدة التي فجرت الثورة وصاغت أهدافها كانت لا تزال جنينية ثم تحت وطأة الصراع غير المتكافىء جرى إنهاكها وإخراجها من المشهد بالتدريج، باستثناء تلك التي اندمجت مع القبيلة أو نجحت في استخدامها.
عندما اندلعت ثورة فبراير في 2011، فهي كانت بذلك قد عبرت عن أزمة كل المؤسسات القديمة، بما في ذلك القبيلة، التي لم تعد فاعلا من الدرجة الأولى أو حتى الثانية. وكما هو حال الثورات العربية فقد ظل من المتعذر بناء بديل قادر على حمل تطلعات الجماهير الواسعة.
هذا الوضع سيجعلنا نعود للتفتيش عن المؤسسات القديمة التي يمكن أن تشكل روافع مؤقتة للسلطة، في انتظار أن يتبلور البديل المعبر عن الجماهير والحامل لأهداف ثورتها والقادر على خوض الصراع مع المؤسسات القديمة وإزاحتها من المشهد.
عند الحديث عن القوى السياسية التقليدية وعن الشرعية، فإن الشيء الوحيد المهم هو كيفية بناء تسوية قادرة على تكتيل مختلف الجهود في اتجاه هزيمة الانقلاب ومحو أثاره وإعادة تجسيد الدولة بكونها تعبيرا عن مصالح مختلف فئات الشعب اليمني
كما قلنا الأمر لا يقتصر على اليمن فقط، بل يشمل كل الدول العربية التي شهدت اندلاع ثورات. في مصر مثلا كانت جماعة الإخوان المسلمين هي الأكثر جاهزية لوراثة النظام، لكن ضمن منافسة قوية مع الجيش سوف تعصف بها وستجعل هذا الأخير يعد لانقلابا وفرض سلطته في نهاية المطاف على الضد من التطلعات الشعبية.
كانت جماعة الإخوان والجيش هما المؤسستان الجاهزتان لتنازع السلطة في مصر. وفي تونس كان يوجد مؤسسات دولة قوية ومجال عام يشهد توازن قوى، لهذا أخذ التحول السياسي طابعا تدريجيا، أبرز سماته فشل الجديد في تنظيم نفسه وعودة القديم في ملابس جديدة لتصدر واجهة المشهد.
في حالة سوريا لا توجد عملية سياسية قائمة. أما الجيش فقد انحاز في معظمه للنظام وسلطته القائمة على القبضة الأمنية ثم وزاد أن استدعى الجماعات الطائفية إلى مسرح الأحداث فتمكن من تحويل الثورة إلى مجزرة. أما في ليبيا فبسبب ضعف النظام وهشاشة مؤسسات الدولة، وعدم وجود أي عملية سياسية، ثم تشارك نفس المأزق مع باقي الثورات العربية، فإن الحرب الأهلية كانت هي البديل.
من هنا يمكن فهم الحالة اليمنية، ولماذا تواطأت الثورة مع تصدر القوى السياسية التقليدية للمشهد. لم يكن ثمة بديل غير الحرب. ولأن هذه القوى السياسية هي جزء من الأزمة، فإن الحرب عادت وتفجرت بعد أن تمكنت الثورة المضادة من إعادة ترتيب صفوفها على شكل تحالف طائفي وعصبوي.
إذا الفراغ الذي فشلت الثورة في ملئه جاءت جماعة الحوثي ومعها بقايا النظام البائد وفرضت نفسها فيه. لكن ضمن سياق العنف الذي شكل طبيعتها ويشكل تركيبتها وميدان وجودها. فهي بالرغم من كونها تعبر عن مصالح قطاعات فقدت مصالحها أو تخشى من فقدها، إلا أن العنف يظل هو السمة البارزة والذي بدونه يستحيل على هذه الجماعة أن تحيا. ما يعني فشلها في تأمين تلك المصالح أو إعادة تنظيمها خارج مجال الحرب التي أضحت تشكل ميدان استنزاف لتلك القطاعات على عكس تصوراتها.
أمام مشهد كهذا، تكون الحرب قد وضعت أمام قوى الثورة (لا تزال هلامية وبلا ملامح) مهاما من نوع مختلف، يتمثل بضرورة مواجهة الثورة المضادة والعمل على هزيمتها، بالتزامن مع التصدي للمهام الأساس والمتمثل ببناء تنظيماتها الثورية المفارقة لما سبق وجوده والمعبرة عن مصالح القطاعات الشعبية الواسعة.
لكن هذا يعيد تجسيد المأزق مرة أخرى، طالما لا توجد روافع للمهام المطروح غير القوى السياسية التقليدية التي تمثل السلطة الشرعية خلاصة لها وانعكاس لأزمتها. وقد تجلى هذا عندما فشلت في الحفاظ على البلاد وفتح المجال أمام التحول وأمام تشكل روافع جديدة معبرة عن الثورة وأهدافها.
أزمة القوى السياسية نهائية, وكل القوى الأخرى التي تحاول أن تقدم نفسها بديلا، هي مجرد رجع صدى تاريخي لهذه الأزمة. فعوضا عن كونها غير قادرة على تمثيل مصالح قطاعات واسعة في المجتمع، فهي أيضا لن تقدر على تقديم حلول لتلك المشاكل التي كانت سببا في تفجر الثورة، ابتداء بجماعة الحوثي وليس انتهاء بالمجلس الانتقالي الجنوبي.
محاولة الرهان على القوى السياسية كما تبدت في تحالفها السلطوي الأخير المعلن عنه، سيظل رهانا خاسرا، ما لم يكن هناك برنامج واضح يحكم هذا التحالف. فمسئولية هذه القوى استعادة الدولة التي فرطت بها. ولأن هذا البرنامج غائبا لصالح استمرار الرطانة والأوهام فإن الشيء الوحيد الذي سيظل يحدث هو تأكل السلطة الشرعية لصالح تمدد جماعات ما قبل الدولة وفي مقدمة ذلك جماعة الحوثي لكن دون قدرتها على الهيمنة.
عند الحديث عن القوى السياسية التقليدية وعن الشرعية، فإن الشيء الوحيد المهم هو كيفية بناء تسوية قادرة على تكتيل مختلف الجهود في اتجاه هزيمة الانقلاب ومحو أثاره وإعادة تجسيد الدولة بكونها تعبيرا عن مصالح مختلف فئات الشعب اليمني وليس مصالح فئات وجماعات وطغم. وسيظل هذا هو الحد الأدنى لتوفر شروط تبلور بديل يعيد ترتيب المشهد وفقا لما طرحته ثورة فبراير وقبل ذلك الحراك الجنوبي من مهام. لكن سواء وجدت تلك التسوية أو غابت، فإن ميدان العمل الحقيقي سيظل في المجتمع وبين الناس العاديين الذين أصبحت معركتهم مع جماعة الحوثي نهائية ولا يمكن العودة عنها.