ولأني كنت مؤمناً بنصيحة الرفيق "فهد" يوسف سلمان يوسف، أحد أبرز مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي، والتي تدور حول كيفية التعامل مع المحققين وكنت قد قرأتها في كتابه: الشيوعية أقوى من الموت وأعلى من أعواد المشانق.
ومضمونها أن "تعترف ولا تعترف" أي أن تعترف بما يعرفونه عنك، وتدافع عن قضيتك كما لو أنك في محكمة... ولا تعترف بما لا يعرفونه عنك وعن تنظيمك السري، وبالإضافة لمعرفتي المسبقة بما هو معروف عني كانت أسئلة التحقيق تكشف لي حقيقة ما يعرفونه عني وما لا يعرفونه، ومن هذا المنطلق بدأت بتطبيق نصيحة الرفيق "فهد" علاوة على أن سلوكيات وأساليب المحقق العنجهية كانت توحي لي بافتقاره لإمكانيات الاستدراج والحصول على المعلومات التي يريدها بدون اللجوء لاستخدام التعذيب الجسدي والنفسي الذي باشر باستخدامه من أول ليلة من ليالي التعذيب الطويلة التي امتدت على مدى أشهر متواصلة
وبعد كل جولة تحقيق كان يكتشف أنه لم يحصل سوى على بعض المعلومات التي يعرفها مسبقاً فيجن جنونه ويضطر لإعادة التحقيق من البداية ولثلاث مرات يقوم بتقطيع محاضر التحقيق، وكان في المرة الأخيرة وبعد أن عجز في الحصول على رسم للهيكل الهرمي "التنظيمي" لحزب الوحدة الشعبية اليمني "حوشي" قام الجلاد نفسه برسم هيكل افتراضي للحزب وقام بتعبئة بعض المربعات بمعلومات من عنده وترك بقية المربعات فارغة وطلب مني أن أقوم بإعادة رسم الهيكل كما هو وتملئة المربعات الفارغة وقمت بنقل الهيكل كما رسمه الجلاد بدون تعبئة المربعات الفارغة التي بقت كما هي فاشتاط غضباً وبدأ بحفلة تعذيب طويلة لم تتوقف إلا مع طلوع الفجر تارة على صوت أغنية "نشوان للمرشدي" وتارة أخرى بقراءة فصول من كتاب "المادية التاريخية" كواحدة من المحاولات المتكررة لغسيل الدماغ.
وبعد أن عجز الجلاد في الحصول على معلومات لتعبئة المربعات الفارغة حتى ولو كانت غير حقيقية - وتحت ضغط مطالب الإدارة برفع ملف التحقيق الذي طالت مدته لأكثر من خمسة أشهر -قرر في مساء الليلة التالية نقلي مع ملف التحقيق لمقابلة مدير الجهاز العقيد أحمد الأنسي، وعند مقابلته بادر الجلاد بالتوضيح بأن السجين قام برسم الهيكل الهرمي "التنظيمي" لحزب الوحدة الشعبية ولكنه ترك بعض المربعات فارغة ورفض تملئتها، بالمعلومات الصحيحة، وحينها سألني الأنسي، لماذا لم تقم باستكمال رسم الهيكل وتملئة الفراغات.؟!
قلت له: المحقق هو من قام برسم الهيكل وأنا قمت بنقله كما رسمه هو فأنا لا أعرف هيكلاً هرمياً محدداً لحزب الوحدة الشعبية، ولكنني أعرف الهيكل الهرمي التنظيمي للحزب الاشتراكي اليمني، وحين التفت للمحقق بادره المحقق بالقول: يا فندم هذا الهيكل الذي رسمه صاحب جبل حبشي، فرد عليه: هناك فرق بين الذين ينشطون في المدينة والذين ينشطون بالريف، والتفت إليَّ قائلاً: خذ أوراقاً وقلماً وأكتب كل ما تعرفه.
بعد العودة إلى غرفة التحقيق باشر الجلاد بحفلة تعذيب انتقامية حتى طلوع الفجر
فرديت: لقد قلت كل ما أعرفه وليس لديَّ ما يمكن قوله.
ولكنه أي الأنسي، لم ينس أن يخاطبني بما يشبه التبرؤ من مسؤولية دعم وتبني الجماعات الدينية قائلاً: بتمردكم اجبرتم الدولة على تبني تلك الجماعات ودعمها.
وبعد العودة إلى غرفة التحقيق باشر الجلاد بحفلة تعذيب انتقامية حتى طلوع الفجر.
وفي اليوم التالي توقف التحقيق ورفع الملف رسمياً لإدارة الجهاز، ولكن الجلاد قرر أن يفتح معنا (الرفيق أحمد غلاب وأنا) فصلاً جديداً من التعذيب النفسي بواسطة الإرهاق اليومي والحرمان من النوم، فقدم لي دفتراً مجلداً يحتوي على اسماء أعضاء الخلايا الأولى لمنظمة المقاومين الثوريين اليمنيين في شرعب، طالباً مني كتابة تعريف بخلفية كل عضو من أعضاء هذه الخلايا السرية، وعندما رفضت القيام بهذا العمل لعدم معرفتي بأي شخص منهم فأنا لم أكن عضواً في منظمة المقاومين، ولا أعرف أياً منهم معرفة كافية تؤهلني للحديث عنه وعن خلفياته، فقال: سآتيك بمن يعرفهم وما عليك سوى أن تقوم بالكتابة والتدوين، وأتى برجل مسن هو الحاج محمد هزاع من أبناء عزلة الأكروف شرعب السلام، وهذا الرجل حينها كان في الستينات من عمره وتعرض لتعذيب جسدي ونفسي بشع من قبل الجلاد إياه فقط لأنه والد لأثنين من الرفاق الدكتور سعيد محمد هزاع والذي كان يومها يدرس في أوروبا الشرقية، والرفيق الغائب / المغيب، محمد بن محمد هزاع "قرطم" والذي كان يومها في عدن، - ومن حينها لم يعد لأسرته التي ظلت تنتظر عودته وقد يكون والده قد لقي ربه وهو لا يعلم مصيره - ولأن الشيخ المسن الحاج محمد هزاع كان عضواً في لجنة الإصلاح الاجتماعي التي شكلتها الجبهة الوطنية الديمقراطية لحل النزاعات التي تنشئ بين السكان في المناطق التي كانت تسيطر عليها الجبهة . والرفيق عبدالله مهيوب طاهر "محمود" من عزلة الشريف شرعب السلام، وكان أحد القيادات الميدانية للحزب والجبهة في شرعب.
فيما تم تكليف الرفيق بجاش عبد الواحد الكمالي "أحمد غلاب" بنقل البرنامجين السياسيين للجبهة الوطنية والحزب الاشتراكي اليمني، كنوع من الإرهاق والحرمان من النوم.
وعلى الجانب الآخر كان الجلاد ومساعدوه يتعمدون استغلال الظروف النفسية لبعض الرفاق في المعتقل لوضعهم في مواجهة بعض رفاقهم في محاولة بائسة لحرق مراحل العودة وتمزيق الصلات الرفاقية، بالاعتماد على حالات سابقة ولكن محاولاتهم بائت بالفشل الذريع بفعل اليقظة والوعي الثوري العالي الذي كان يتمتع به معظم الرفاق في المعتقل وخصوصاً الشخصيات القيادية التي كان التركيز منصباً حولها
مذكرات سجين