لم نشاهد عاصمة أو سفارة عربية حاولت إيقاظ ذاكرة الإنسانية من خلال البيانات والمهرجانات والأفلام ومعارض الصور التي تعيد مشاهد الجرائم «الإسرائيلية» منذ بقر بطون النساء في كفر قاسم ودير ياسين إلى السلسلة الطويلة في قلب فلسطين والتداعيات خارج حدودها.
مرارة النكبة حاضرة دائماً وخانقة باستمرار، ومناسبتها هذه السنة تحمل دلالة على تطاول وثقل الفجيعة حيث سيطوى قرن كامل في نوفمبر/تشرين الثاني القادم على صدور وعد بلفور ونصف قرن على عدوان 1967. وفي الوعي العربي أن مسؤولية ذبح الفلسطينيين ومنح أرضهم للصهاينة تتحملها بريطانيا وحدها بوعدها المشؤوم وباستقبال الهجرات اليهودية والمساعدة في قيام الدولة الصهيونية. ذلك صحيح، والصحيح أيضاً أن أوروبا مجتمعة مسؤولة عن تلك الكارثة. فبعد عشر سنوات على المؤتمر الصهيوني ببازل في سويسرا تبنّى مؤتمر بنرمان الذي دعت إليه بريطانيا وضم فرنسا وهولندا وبلجيكا وأسبانيا وإيطاليا، مشروع إنشاء دولة تفصل مشرق الوطن العربي عن مغربه لمنع الخطر المحتمل من منطقة واسعة الأرجاء متجانسة السكان.
خلال العقود السبعة الماضية كان حساب الأرباح والخسائر يميل لصالح «إسرائيل»، أكان ذلك في قائمة الحرب أم في ميزان المفاوضات
خلال العقود السبعة الماضية كان حساب الأرباح والخسائر يميل لصالح «إسرائيل»، أكان ذلك في قائمة الحرب أم في ميزان المفاوضات، بل إن الخسائر العربية بلغت أقصاها وأقساها في المسيرة السلمية كما سماها أربابها؛ لأن «إسرائيل» كسبت الاعتراف ولم تخسر الأرض، ثم إنها ربحت استرخاءً في الشارع العربي. كما أن العرب خلال سنوات المفاوضات بدّدوا رصيدهم من التحالفات الدولية. ولم يكن الاتحاد السوفييتي هو الوحيد الذي فقدوه بسبب اشتراكهم في الحرب ضده وإنما ذهبت معه كل دول شرق أوروبا ويوغسلافيا، كما لم يكن تغير الموازين الدولية هو الدافع وراء التبدل في موقف الصين والهند ودول أخرى في آسيا وإفريقيا وحتى في أمريكا اللاتينية من «إسرائيل»، بل لأنهم اكتشفوا أن الاستثمار في العلاقة مع العرب غير مربح لأنهم يرمون حلفاءهم عند أول منحنى. وكان الخطأ القاتل قبول المفاوضات الثنائية بعد مدريد، وفلسطينياً التسلل منه إلى أوسلو وصولاً إلى ورطة غزة - أريحا.
إنها مسيرة شائكة طالما تجددت فيها الآمال مع كل إدارة أمريكية جديدة منذ تخلينا عن حلفائنا وسلّمنا الأوراق كلها للولايات المتحدة، هكذا في حركة دائرية لم نفلح في الخروج منها. هذا الوضع لا يزعج «إسرائيل» والأوضاع في المنطقة بمجملها تسعدها كثيراً. والمشكلة أن الرئيس عباس في موقع من يطلب دون أن يمتلك ما يقايض به، وكما هي طبيعة «الإسرائيليين» سوف يطالبونه بما ليس في طاقته ولا في يده مثل إيقاف العمليات الفردية للشبان الفلسطينيين الغاضبين من القمع «الإسرائيلي».
إن «إسرائيل» تثابر في تغيير الواقع في القدس والضفة بما يجعل إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة مهمة مستحيلة. والمؤشرات كثيرة على أنه يراد لفلسطين أن تختصر في غزة، منذ قرر شارون الانسحاب منها وقررت حماس فصلها عن القطاع.
إن «إسرائيل» تثابر في تغيير الواقع في القدس والضفة بما يجعل إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة مهمة مستحيلة
وكان المسعى توسيعها بضم أراضٍ من سيناء حتى إذا فشل المشروع ظهر تصور «إسرائيلي» بديل بإنشاء جزيرة صناعية بالقرب من غزة، وربما وافقوا على فيدرالية تضم إليها بلدات رام الله والخليل وخان يونس ونابلس، إلى هذا فإن «إسرائيل» تواصل سياسة الفصل العنصري والتوجه إلى تحصينها بتشريع يؤكد يهودية الدولة، بينما هناك أصوات في «إسرائيل» تدعو إلى طرد الفلسطينيين من أراضي 48 فيما يعرف بالترانسفير، لذلك فإن المهمة الأصعب أمام الفلسطينيين الآن هي خوض معركة دبلوماسية وقانونية للتصدي لفكرة يهودية الدولة ربما تدفع الأمور في مستقبل قريب إلى النضال من أجل دولة ديمقراطية ثنائية القومية وثلاثية الديانة تضم اليهود والفلسطينيين مسيحيين ومسلمين. حتى لو قامت دولة فلسطينية، دولة ناقصة السيادة في كانتونات محاصرة بالمستوطنات، فإنها لن تنهي الصراع ولن تحسّن أوضاع الفلسطينيين أو تحقق الأمن ل «إسرائيل»