فالخلد الذي يظهر فجأة الى السطح, كعلامة على احتدام وضع ثوري في بلد ما, ما يلبث أن يعود الى تحت سطح الأرض ليحفر اخاديد وممرات هي بمثابة قنوات تواصل بين النضالات المختلفة, وما ان تتجدد رياح الثورة يكون الخلد قد قام بعمله بصورة رائعة.
تلخص هذه الاستعارة كيف أن للثورات سيرورة لا يمكن وقفها مهما عربدت الثورات المضادة ومهما طغت القوى الرجعية والاستبدادية وهي تحاول عبثا لي عنق التاريخ.
عندما تخبو رياح الثورة أو عندما يتعثر مسارها, فهذا يكون مؤشرا على انه لا يزال ينقصها الكثير حتى يقوى عودها وتتمكن من الظفر بالخلاص, وفي موجتها الأولى خصوصا في وضع مثل ذلك الذي أندلعت فيه قبل ثمانية اعوام في عدد من الدول العربية, يصبح مهمة الثورة الأساسي زلزلة أنظمة الاستبداد وفتح الباب واسعا أمام انهيارها غالبا بفعل أزمات هذه الأنظمة نفسها ومن داخلها ثم بفعل محاولتها التشبث بالبقاء.
لكن الأهم من ذلك وقد قامت به الثورات العربية على أحسن ما يكون هو فتح نافذة واسعة لاكتساب الوعي ومراكمته. وهكذا تآخذ كل موجة ثورية دورها في فتح مساحات جديدة على صعيد تجذير النضالات الشعبية وتقوية بعضها البعض وايضا اكسابها مزيد من الوعي الذي يستحيل بدونه الظفر بالخلاص.
لا أعتقد ان هناك ثورة شعبية بحجم ثورة الشعب السوداني, واجهت كل هذا القدر من اللامبالاة والتغييب المتعمد عن الاعلام وفي اجندة وبيانات المؤسسات الدولية.
وهذا طبيعي طالما أننا في زمن طغيان الثورات المضادة والحروب الأهلية التي تقودها بنى متخلفة صعدت إلى السطح للدفاع عن مصالح الأنظمة التي قامت الثورات ضدها واساسا لأن الثورات كانت لا تزال غير قادرة على بناء استراتيجيتها الواضحة وتقديم البديل.
وبطبيعة الحال, عدم مساندة ثورة السودان, لم يتوقف على أنظمة الاستبداد واعلام الثورة المضادة والدول الكبرى وحسب, لكن حتى الثوريين الذين تكفل بهم الشتات في السنوات الاخيرة ظلوا طوال الشهرين الماضيين يراقبون ما يجري بحذر مع بروز سمة قلق عامة.
رغم ان الظروف الموضوعية للثورة في السودان تكاد تكون متوفرة أكثر من أي دولة أخرى, ورغم أن شعب السودان جبار وعنيد ولديه رصيد حافل بالملاحم الشعبية والبطولية, إلا أن التردد يتعلق بأمر آخر, فالثوريين في البلدان التي سبق واندلعت فيها الثورة اصبحوا يعيشون تحت وطأة الظروف التي خلقتها الثورات المضادة وتكالب العالم على ثوراتهم ثم تحت وطأة التشويش في تحليلهم للمسار الثوري الذي انفتح في المنطقة ولا يمكن اغلاقه قبل بناء بدائل تقدم حلولا جذرية لمشاكل الطبقات الشعبية صاحبة المصلحة الأولى في الثورة.
لا يوجد تعبير أدق يمكن اطلاقه, ونحن نشاهد, اندلاع موجة ثورية جديدة في المنطقة العربية, بدأت من السودان وآخذت تمتد إلى الجزائر, سوى استعارة ماركس الشهيرة: "مرحى أيها الخلد العجوز".
أنهم يجهلون كيف يعمل الخلد العجوز, أو ربما كان لديهم شكا في وجوده, وهاهو يظهر في الجزائر, ليبعث برقية ثورية عاجلة لثورة السودان وتمنحها دفعة معنوية لا يمكن الحصول عليها بطريقة مختلفة وتكون بمثل هذه القيمة.
رياح الثورة في الجزائر أرعبت الطاغية وجعلته يسارع لمحاولة القيام بمناورة بائسة وفاشلة حتما.
على صعيد الوعي, فإن جولة سريعة في صفحات وحسابات أصدقاء ورفاق سودانيين على السويشل ميديا, يمكنها أن تقدم صورة مكتملة عما فعلته الثورة بهم خلال الشهرين الماضيين.
أحد هؤلاء الاصدقاء الذين أحرص على زيارة صفحاتهم كل يوم لمتابعة الجديد في مسيرة النضال الثوري السوداني, ويدعى مبارك جعفر علق على مناورة البشير موضحا كيف ان النظام اصبح غبيا وساذجا ويتصرف بحماقة, فهو من حيث لا يدري أصبح يحثهم على أن يسدوا الفجوات وينتظموا أكثر حتى تكتسب ثورتهم القوة والصلابة التي تحتاجها.
سيتحدث مبارك في منشوره التلقائي عن القفزة التي حدثت لهم على صعيد اكتساب الوعي والتي جعلتهم يجتازون سنين ضوئية في ظرف شهرين.
إذا تصبح الثورة بكل تفاعلاتها, بعنفوانها وبتكالب أعدائها, مدرسة مفتوحة للشعوب, وأفضل طريقة عرفها التاريخ لفتح بوابة المستقبل والشروع بصناعته.